التعليم وظهور الصحافة في الجزائر خلال الاحتلال الفرنسي
أثر الوضع الجديد الذي أحدثه الاحتلال على
التعليم بنوعيه العربي والفرنسي، فالحروب المتواصلة، والهجرة الجماعية للعلماء
والأعيان والاستيلاء المنظم على الأوقاف وموارد الحياة العلمية كالمكتبات والوثائق،
أدى إلى جمود التعليم العربي الذي كان مصدره المساجد والمدارس والزوايا. وتشهد
وثائق الاحتلال نفسها أن التعليم كان أكثر انتشارا في الجزائر منه في فرنسا نفسها عندئذ.
وكانت هذه المؤسسات كلها تتغذى من الأوقاف ولا سيما في المدن. أما في الأرياف فإن
معظم حروب المقاومة قد جرت هنالك على أيدي أصحاب الزوايا والطرق الصوفية. فكان مآل
المؤسسات التعليمية والدينية حينئذ الضم الى أملاك الدولة والتخريب بدعوى السقوط
او التحويل الى كنائس ومصحات او توسيع الساحات العامة. أما الزوايا التي كان معظم
نشاطها في الأرياف فقد تعطلت نتيجة الحروب. وهكذا يمكننا القول ان التعليم العربي
قد توقف لسنوات طويلة لأن عمليات الاحتلال والمقاومة قد طالت أيضا إذ انها استمرت
الى الثمانينات.
أما التعليم الفرنسي
فلم يشرع فيه إلا خلال الخمسينات وعلى نطاق محدود جدا. وكانت الذرائع كثيرة. منها
أن فترة 1830 – 1834 تعتبر فترة " تردد " في مواصلة الاحتلال او عدمه،
ومنها أنه عندما تقررت مواصلة الاحتلال طال أمد المقاومة وانتفى الاستقرار الضروري
لإنشاء المدارس. والمعروف ان فترة 1839 – 1847 تعتبر في حوليات الاحتلال سنوات
الحرب بلا هوادة واللجوء الى سياسة الأرض المحروقة. ومن الذرائع أن الجزائريين
رفضوا ارسال أولادهم الى المدارس الفرنسية خشية تنصيرهم، ومنها أيضا عدم وجود
الميزانية الكافية. والملاحظ أن الذريعتين الأخيرتين بقيتا واردتين طيلة القرن
التاسع عشر، فقد بقي الفرنسيون يرددون أن الجزائريين هم الذين يرفضون التعليم
الفرنسي وأن المال للتعليم كان قليلا او مفقودا. والنتيجة هي انتشار الجهل في
الجزائريين سواء بلغتهم العربية أو بلغة المحتل الفرنسي. ومن الملاحظ أن الجمهورية
الثانية قد جعلت تعليم الجزائريين تابعا للحكام العام بالجزائر، أما تعليم الأوروبيين
فقد جعلته تابعا لوزارة المعارف بفرنسا نفسها.
وهناك مصدران للإبقاء على تعليم ضعيف وغير
فعال.
الأول مواصلة تحفيظ
القرآن الكريم في ملحقات تابعة للمساجد في المدن أو الزوايا الريفية. وقلما يضيف
التلميذ إلى ذلك مواد تساعده على فهم القرآن كالنحو والفقه والبلاغة أو فهم الدين
كالتوحيد والسيرة النبوية. وقد استمر هذا الوضع طيلة القرن التاسع عشر، وكان على
كل من يقوم بأي نوع من التعليم أن يطلب رخصة من السلطة الفرنسية مسبقا، وقد تغاضت
السلطة أحيانا عن بعض الزوايا الجديدة لأسباب سياسية فسمحت لأصحابها أن يتوسعوا في
مواد التعليم قليلا، نذكر منها زاوية الهامل وزاوية ابن ابي داود وزاوية طولقة،
وكل هذه الزوايا قامت بهذا الدور بعد الستينات فقط، أي بعد مرور أكثر من جيل على
الاحتلال. وخلال نفس الفترة لاحظ الفرنسيون أن الجزائر لم تعد تتوفر على رجال الدين
والعلم الذين انقرضوا بالهجرة والوفاة، وأن فرنسا في حاجة إلى من يملأ الفراغ في
الوظائف الدينية والقضائية على الخصوص، فأنشأ الفرنسيون سنة 1850 ثلاث مدارس
حكومية تدرس بالعربية اللغة والفقه والتوحيد لسد ذلك الفراغ. وقد وزعوا المدارس
الثلاث على الأقاليم الرئيسية الثلاث (تلمسان، العاصمة وقسنطينة) واستمرت هذه
المدارس في أداء مهمتها على نطاق محدود جدا (15-20 تلميذ في المدرسة الواحدة، أي
بقدر حاجة الإدارة الى موظفين في الامامة والقضاء) وكانت هذه المدارس إلى
السبعينات تحت إدارة جزائرية، ثم نقح برنامجها فأدخلت عليه اللغة الفرنسية
والتاريخ الطبيعي وتاريخ وجغرافية فرنسا، وتولى إدارتها مستشرقون فرنسيون، ولكن
مجال هذه المدارس ظل محدودا وظل تعليمها تعليما وظيفيا لا ثقافيا.
أما المصدر الثاني
للتعليم على ضعفه وعدم فاعليته، فهو إنشاء المدارس الفرنسية، وأول مدرسة ابتدائية
لهذا الغرض أنشئت في العاصمة سنة 1836. وكانت مفتوحة كمركز فقط لأن التلاميذ ليس لهم
سن محدود، وهم يأتون أو يغيبون كما يحلو لهم، وكان عددهم يتناقص بالتدرج. وكان هذا
النوع من المدارس يسمى بالمدارس العربية الفرنسية، أي الموجهة إلى المسلمين، في
مقابل المدارس الفرنسية المحض أو الموجهة إلى الأوروبيين، وبتقادم السنين انتشر هذا
النوع من المدارس الابتدائية حتى في الأرياف، ولكن الإقبال عليها ظل محدودا جدا
لأن الأهالي رأوا فيه وسيلة لفرنسة أبنائهم وإشاعة اللسان الفرنسي بينهم في الحديث
وليس الهدف التثقيف والتربية كوسيلة للحياة، وبالطبع لم يكن التعليم إجباريا، وإذا
وصل التلميذ إلى سن الرابعة عشر قلما يبقى في المدرسة لحاجة أهله اليه، أو يطرد من
المرسة لأنه لا توجد مؤسسة تعليمية أخرى تستقبله. وهذا يجرنا إلى القول انه لم
تنشا للجزائريين أية مدرسة متوسطة أو ثانوية.
أما أبناء الأوروبيين
فقد أسست لهم المدارس التي تستوعب جميع مراحل التعليم، بما في ذلك الثانوية
والعليا، فحيثما وجدت جالية أوروبية تأسست المدارس الابتدائية كما هو الحال في
فرنسا. وفي الخمسينات تأسس المعهد الامبراطوري ومعهد الطب، وفي ستينات القرن19
تأسست أول ثانوية فرنسية في العاصمة، وفي السبعينات أنشأ الفرنسيون أربعة معاهد
عليا (الطب، العلوم، الحقوق، الأدب) وهي التي تحولت إلى كليات تحت اسم جامعة
الجزائر ابتداء من سنة 1909. ومن النادر أن تجد جزائريين يدخلون الثانوية الفرنسية
أو المدارس العليا، ولم يحتفل بأول طبيب جزائري إلا سنة 1906، وكان متجنسا
بالجنسية الفرنسية ومتزوجا بفرنسية.
وفي غياب المؤسسات التعلمية
العربية عانت الثقافة معاناة شديدة وكادت تغيب عن الأنظار. فالإنتاج الأدبي
والتاريخي والفقهي لا وجود له تقريبا خلال القرن التاسع عشر، ومع ذلك فالحركة
الفكرية في الجزائر كانت تستمد حيويتها مع بعض العوامل، ومن ذلك دور المهاجرين
الذين استكملوا ثقافتهم في البلاد العربية وظلوا على حنينهم لوطنهم مثل محمد بن الأمير
عبد القادر صاحب (تحفة الزائر) والذي استقر في دمشق، ومحمد العربي المشرفي، صاحب
التآليف العديدة في التاريخ والأدب والذي استقر بالمغرب، والشيخ طاهر الجزائري
ببلاد الشام الذي أثر على الحياة الفكرية العربية عموما، والعامل الثاني هو دعوة
الجامعة الإسلامية، إذ حركت في الجزائر بعض المتعلمين فتبنوا أفكارها وأعلنوا أنهم
من أنصارها، أمثال المولود بن الموهوب وعبد الحميد بن سماية، ومصطفى الكامل.
والعامل الثالث أن جريدة المبشر الرسمية كانت توظف متعلمين للتصحيح والصياغة
فاطلعوا على الأفكار الغربية وجربوا الأساليب الشرقية أيضا، فكان منهم أمثال أبي
القاسم الحفناوي، وعمر بن قدور، كما ظهر محمد ابن أبي شنب، على مستوى الجامعة متأثرا
بأساليب المستشرقين في البحث من جهة وبالتراث العربي الإسلامي من جهة أخرى.
وعندما نذكر الحركة
فإنما يتبادر للذهن أيضا الصحافة والنوادي والجمعيات وما الى ذلك، والحق أن
الصحافة ظلت حكرا على الفرنسيين إلى فاتح القرن العشرين، فهم الذين أنشأوا صحافة
رسمية مثل (المونيتور الجيريان) سنة 1832 والمبشر سنة 1847، وكانت الأخيرة موجهة
إلى الجزائريين بالذات، وكانت تصدر بالعربية والفرنسية، واستمرت حوالي قرن،
والفرنسيون هم الذين أنشأوا الصحافة الخاصة على غرار ما كان في فرنسا إذ تبنى بعض أصحاب
رؤوس الأموال صحفا أصبحت مؤثرة على الرأي العام الأوروبي في الجزائر وكانت كلها
تصدر بالفرنسية ما عدى جريدة "المنتخب" التي ظهرت بالعربية لفترة قصيرة،
وقد أصدر بيير فونتان بوحي من الإدارة العامة جريدة "المغرب" بالعربية
1903 واستكتب لها بعض الجزائريين. والأوروبيون هم الذين أنشأوا المطابع أيضا إذ لم
يكن في الجزائر قبل الاحتلال مطبعة، وأنشأوا اللجان العلمية والمجلات والجمعيات
المتخصصة في التاريخ والآثار وغيرها، ولم يسمح للجزائريين بشيء من حرية التعبير
وإنشاء الصحف والنوادي إلا في فاتح القرن العشرين، حين ظهرت صحف بالعربية
والفرنسية وظهر كتاب من أمثال محمود كحول وعمر راسم وعمر بن قدور وعمر بوضربة. كما
أنشأ الاخوة رودوسي مطبعة بالعربية تحمل نفس الاسم منذ أواخر القرن التاسع عشر
وتمركزت حركة الترجمة في القضاء والإدارة والصحافة، بالإضافة إلى الترجمة في
القضاء والإدارة والصحافة بالإضافة إلى الترجمة في مجال كتب التراث.
وهكذا لم تحن سنة 1913
حتى كانت الحركة الفكرية في الجزائر قد أخذت تتفتح على عالم جديد: الفكر الغربي عن
طريق الصحافة والترجمة والمدرسة من جهة، والنهضة العربية والإسلامية ممثلة أيضا في
الحركات المعادية للاستعمار والأساليب الأدبية الجديدة، من جهة أخرى.

تعليقات
إرسال تعليق