الاهتمام الفرنسي بالتعليم في مصر
والتفكير في صناعة إطارات مستقبل البلاد المصرية
1_ انبهار مصر وعلمائها بمستوى علماء فرنسا:
رغم أن الفرنسيين كانوا قد خرجوا (رسميا)
من مصر إلا أن جومار، وبغية تحقيق الفرنسة والتغريب في أوساط الشعب المصري، اقترح
على محمد علي إرسال بعثات علمية إلى فرنسا بحجة رفع المستوي العلمي بمصر. خاصة وأن
جومار كان من بين أعضاء المعهد المصري، ومن بين المهتمين بضرورة إحداث التأثير
التعليمي الفرنسي بمصر لما له من تأثير على الحضارة وعلى خصائصها فيما بعد.
وكان جومار أيضا
على علاقة وطيدة بمحمد علي منذ زمن الحملة. وبناء على ذلك، لم يتردد محمد علي في إرسال
البعثات العلمية. كما كان إعجاب المصريين علميا شديدا بما وصل إليه الفرنسيون،
فهذا الجبرتي وقف مشدوها أمام علم الفرنسيين حتى وصف علماء الأزهر وهو منهم بأنهم
أشبه (بالحمير) مقارنة بعلماء جيش الشرق الذين جاءوا –حسبه- أمرا عجبا من
المتفجرات والرياضيات والكيمياويات ... وهذا رفاعة الطهطاوي يصف باريس
بقوله:"الذي يظهر لمن تأمل في أحوال العلوم والفنون الأدبية والصناعية في هذا
العصر بمدينة باريس، أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجها بهذه المدينة، وأنه
لا يوجد في حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء باريس. بل ولا في الحكماء
المتقدمين".
ورغم أن زمن الحملة الفرنسية كان زمن حرب
ومعارك إلا أنه كان أيضا زمن علوم على مختلف تخصصاتها. لأنهم اعتبروه بداية لتحقيق نقلة نوعية لمصر على مستوى مختلف العلوم. كما كان بذلك
نقلة لمصر على مستوى الذهنيات، بسبب سياسة المماليك التي أدت إلى انتشار الجهل بين
المصريين، وانحطاط مداركهم وشبه انعدام لدور العلم عندهم حين وصفوا بأنهم
"قبضوا البلاد بيد من حديد مدة وضعوا فيها بين المصريين وبين نور العلم حجابا
كثيفا لم يزده طول حكمهم إلا جدة".
هذا الواقع جعل علماء مصر من الأزهريين
يرون أنفسهم كما تراهم العامة أيضا هم علماء مصر وهم جهابذة العلم المتحكمين في
ناصيته... أما مع قدوم الفرنسيين فاكتشف المصريون حقيقة علمائهم واكتشف علماء مصر
من الأزهريين حقيقة مستواهم "ولا ريب أن وفود طائفة من العلماء إلى مصر للتنقيب عن آثارها والوقوف على
أسرار طبيعتها المجهولة قد أيقظ في المصريين روحا جديدة، فقد كان حملة العلم فيهم
هم حملة الشرع. وكانوا يتوهمون أنهم محيطون بالعلوم كافة، فلما رأوا الفلكيين،
وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيأة والنقوشات والرسومات والمصورين،
والكتبة والحساب والمنشئين، ورأوا المكتبة الجديدة التي أنشأها الفرنسيون وما حوته
من المصنفات، وترحيبهم بكل من يريد المراجعة من المصريين وخصوصا إذا رأوا فيهم
قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف ورأوا التجارب الجديدة وغير ذلك من
أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا". ومثل هذا الكلام حين يصدر عن الجبرتي وهو المعاصر للحملة والناقم عليها، وهو
العالم الأزهري الذي يتكلم هنا عن العلم في مصر عموما وعن العلماء الأزهريين
خصوصا، ندرك فعلا المستوى المتدهور الذي آلت إليه مصر تحت حكم المماليك. كما أن
هذا لا يعني شيئا لطبيعة الحملة الاستعمارية، فجهود علماء الحملة وإن كانت قد
أحدثت الفارق وأبرزت التفوق بين فرنسا ومصر المملوكية وهو شيء منطقي ومعروف بين
الدارسين (تفوق فرنسا على مصر آنذاك علميا وتقنيا) فإن ذلك كله لا ينزع عنه الطابع
الاستعماري ومحاولة الفرنسيين استغلال العلم لاحتلال فرنسا وفرنستها وتغريبها
بفصلها عن هويتها الحضارية العربية الإسلامية.
وللتعليم بمصر علاقة وثيقة بفترة ما بعد
رحيل الفرنسيين عنها (1801 م) حيث اشتد التنافس حول الحكم فيها. فكان المماليك
الراغبون في العودة إلى سدة الحكم، وكان الإنجليز الطامحون إلى خلافة الفرنسيين،
كما كان العثمانيون أيضا يريدون تثبيت خورشيد باشا واليا على مصر تحت سلطة الباب
العالي. وفي تلك الظروف كان الشعب المصري يعاني من هذه الفوضى ومن الاعتداءات التي
خلفتها حالة عدم الاستقرار هذه... وكان علماء الأزهر هم حماة الشعب وملاذه الآمن،
وقبل ذلك كانت الإدارة الفرنسية الاستعمارية الحاكمة قد اضطرت إلى سجنهم مدة يوم،
ومنهم الشيخان عبد الله الشرقاوي وعمر مكرم وباقي العلماء الذين أصبحوا في فترة
1801 – 1805، سندا لمحمد علي ومناصرين له، في الوصول إلى هرم الحكم خلفا للوالي
العثماني خورشيد باشا، الذي اشتد ظلمه على المصريين، واضطر السلطان العثماني إلى إصدار
فرمان تعيين محمد علي واليا على مصر، متراجعا عن قراره السابق القاضي بتعيينه
واليا على صالونيك اليونانية، والذي كان محاولة سلطانية لإبعاد محمد علي عن مصر
بعدما كثر مؤيدوه.
بعد أن ركز محمد علي حكمه واستقرت له
الأوضاع خاصة بعد طرد الإنجليز وصد حملتهم (حملة فرايزر)، لم يبق على نفس احترامه
السابق للعلماء فبدأ يخطط للقضاء على نفوذهم، وإبعادهم عن دواليب الحكم،
واستشارتهم فيه وفي شؤون الناس... وكان الشيخ عمر مكرم أكبر المتضررين، حين تعرض
إلى النفي من القاهرة إلى دمياط حيث قضى بها ثلاث سنوات، قبل أن يسمح له محمد علي
بالانتقال إلى طنطا أين قضى بها سبع سنين، سمح له بعدها محمد على بالعودة إلى
القاهرة ومنها أدى فريضة الحج سنة 1819. قبل أن يتعرض للنفي مرة أخرى إثر الثورة
الشعبية على سياسة الضرائب المجحفة التي سار عليها محمد علي في هذه الفترة. وظن
محمد علي أن لعمر مكرم يد فيها.
وبعد الدراسة والبحث، تبين لنا أنّ التأثير
الفرنسي إنما تجلى واضحا في عهد محمد علي ومن خلفه بالحكم في مصر أي بعد خروج
الفرنسيين منها. بطلب من جومار كما مر بنا. ولذلك جاءت التأثيرات الفرنسية هذه
متأخرة وهي المتمثلة في إصلاحات محمد علي، التي كانت تمثل أحسن صورة لتطبيق
التأثيرات الفرنسية على مصر، حيث ورغم أن محمد علي أراد أن يعيد العنصر الوطني إلى
حكم بلاده بعدما غيبه المماليك طيلة فترة حكمهم على مختلف مراحلها. وكان يريد أن
يجعل من مصر النموذج المتفرد في العالم العربي والإسلامي، والدولة الإسلامية
الوحيدة التي يمكن لها أن تنافس الدولة العثمانية على عرشها وأن تنتزع منها
اسطنبول... إلا أنه كان يتبع في كل ذلك طريقة فرنسية محضة وتقاليد دراسية فرنسية
هي الأخرى. لأن محمد علي كان يرى ضرورة تقليد الأوربيين عموما والفرنسيين خصوصا
بغية تقوية مصر في جميع مجالاتها ومنها التعليم. معتبرا أن التعليم هو مفتاح
الوصول بمصر إلى ريادة العالم العربي والإسلامي ولما لا انتزاع اسطنبول من حكم
العثمانيين أنفسهم. وإعلان مصر دولة الخلافة، أو على الأقل الاستئثار بها في وقت
كان التنافس شديدا بين الدول الأوربية على مصر من جهة، وعلى الدولة العثمانية
وأراضيها من جهة ثانية. وذلك ما جعل محمد علي يطلب عون الفرنسيين في تنفيذ
إصلاحاته هذه.
من أجل ذلك، جاء محمد علي بعلماء أوربيين
وفرنسيين على الخصوص، وأرسل البعثات العلمية إلى أوربا وفرنسا على الخصوص، وأنشأ
المدارس وجعل نظامها على شاكلة نظام المدارس الفرنسية وجعل التعليم بيد المعلمين
الفرنسيين، وكانت تلك هي أبرز مظاهر التأثير الفرنسي في ميدان التعليم. والتي يمكن
أن نوضحها في الخطوات التالية التي سار عليها محمد علي واتبعه فيها خلفاؤه من بعده.
2- الفرنسيون في التأطير العلمي والإداري للطلبة بمصر:
لابد ألا ننسى أن عصر الحملة الفرنسية على
مصر وما بعده وكذا كل فترة القرن التاسع عشر الميلادي هي فترة تنافس أوربي على مصر
وخاصة من القوى الكبرى وهي بريطانيا وفرنسا، إضافة إلى الدول الأوربية القريبة
التي ترى لنفسها الحق في شمال إفريقيا وهي الولايات الإيطالية. ولذا فإن علماء
فرنسا من السانسيمونيين قد طالبوا بتدويل مصر أو على الأقل بتدويل منطقة قناة
السويس وذلك بعد أن اشتد التنافس الفرنسي الإنجليزي عليها. كما شجع شامبيليون وكثير من علماء فرنسا على الإقبال على دراسة الآثار المصرية.
وكان محمد علي يصر على إرسال البعثات
العلمية إلى الدول الأوربية، ويشترط دراستهم على أيدي الطبقة الحاكمة والنبلاء
بفرنسا. وذلك حتى يضمن لهم تكوينا سياسيا إضافة إلى تكوينهم العلمي من خلال
الاحتكاك بالطبقة الحاكمة التي يشهد لها بالكفاءة في التدريس بحكم التكوين الجيد
والتطور العلمي في فرنسا آنذاك وكذلك بفعل الممارسة الميدانية. فأراد محمد علي أن
يأخذ طلبة البعثات تقنيات التعامل الإداري وفن التسيير من أولئك الأساتذة الفاعلين
في الحياة السياسية بفرنسا. ومن أبرز أولئك العلماء نذكر: جومار عالم الهندسة،
وعضو المعهد العلمي المصري ثم المعهد العلمي بباريس.
وعلى سبيل المثال نذكر البعثة العلمية
الثالثة إلى فرنسا سنة 1826، حيث ترأس لجنة امتحانها السيد شابرول وهو أيضا من
دعاة التأثير الفرنسي بمصر وكان من علماء الحملة الفرنسية عليها. وقد حضرتها
شخصيات رفيعة المستوى علميا وسياسيا مثل: سيدني سميث الأميرال الفرنسي، وجوبير أحد
علماء جيش الشرق، وكليرمون طونير قائد أركان مدرسة الحربية بفرنسا، وجونيس محرر
كلية العلوم، والسيد مورييه القنصل العام لدولة انجلترا بفرنسا. وكان هؤلاء هم
مدرسوهم حسب التخصصات.
وتشير الأرقام إلى وجود 200 طبيب وصيدلي أوربي و 20 خبيرا عسكريا، وبين 20 إلى 25 مدرسا متخصصا في اللغة الفرنسية، وهذه الأرقام تعكس الفترة الثانية من اعتماد محمد علي على الخبرة الأجنبية حيث قلل من استقدام الأوربيين ليفتح الباب أمام الإطارات المصرية التي تكونت في أوربا وفرنسا على الخصوص.
3_ ارسال البعثات العلمية إلى أوربا وفرنسا على الخصوص:
بفعل التأثير الفرنسي هذا، آمن محمد علي
بضرورة إرسال البعثات العلمية إلى أوربا
من أجل التكوين على الحداثة وعلوم العصر ونقلها إلى مصر. وكان صاحب هذا الاقتراح
أو الرأي هو جومار، الذي أضاف إلى محمد علي: "هل يكفي إنشاء مدارس فخمة عظيمة
على الطراز الأوربي، برجال يؤتى بهم من ميلانو وباريس ولندره بمصاريف جمة، ثم لا
يلبثون أن يعودوا إلى بلادهم حالما يبلغون الغرض الذي رضوا بالمجيء لأجله؟ كلا ثم
كلا، وبما أن عدد الذين يختارون الإقامة إلى الأبد في وطن غير وطنهم قليل جدا، ولا
يزيد على واحد في عشرين ألفا، فالواجب، إذا، تعليم الأهالي أنفسهم في أوربا، بإحدى
اللغات الأوربية، علوم الأوربيين وفنونهم، فيدخلون بذلك في صميمها، ويتمكنون من
أسرارها، وتتجانس عقليتهم بعقلية متعلميها من الغربيين. ولو أمكن لمحمد علي أن
يرسل إلى أوربا منذ سنة 1815 مائة أو مائتين من الطلبة المصريين، لتقدم رقي البلاد
وتمدنها عما هو عليه الآن".
كانت الوجهة التي اختارها محمد علي لأغلب
البعثات هي فرنسا وذلك بعد البعثة الأولى التي كانت وجهتها إيطاليا، وكان من
أبرزها عثمان نور الدين أفندي الذي اتجه إلى إيطاليا بأمر من محمد علي سنة 1819
بغية أخذ العلوم الحربية، ولما عاد في السنة الموالية إلى مصر تولى بها منصب سر
عسكر، كما تولى رئاسة العمارة البحرية المصرية.
كان عثمان نور الدين أفندي قريبا من جومار
ولذا لما اتجه أفندي إلى فرنسا سنة 1820 طلب منه جومار أن يطرح فكرة تكوين الطلبة
المصريين بفرنسا على محمد علي. فتقبل الأخير هذا الطلب بكل ارتياح لأنه يتقاطع مع
ما يريد. فكان أفندي سببا مباشرا في إرسال محمد علي بعثة الطلبة سنة 1826 إلى
فرنسا، وجعل على رأسها جومار الذي يعرفه منذ الحملة الفرنسية على مصر، وقد كان
يصفه بصديق المصريين. وكان الهدف هو تعويض العلماء الأوربيين في محاولة لبناء النهضة المصرية الحديثة
التي كان ينشدها محمد علي. فأرسل البعثات من المصريين ليتعلموا العلوم الغربية،
وليستعينوا بآراء الفرنسيين وأفكارهم وطرق حياتهم على تطوير مصر. ومن الغريب أن
آباء التلاميذ كانوا يندبون حظ أبنائهم الذين ساعدهم الحظ الأوفر باختيارهم للرحيل
إلى أوربا واستعملوا كل الوسائط لحرمان أولادهم من ثمرة العلم.
إن تفسير ذلك هو أن هذا السلوك يعكس تخوف المصريين
من التأثير الذي كان علماء الحملة يطمحون إلى تحقيقه بمصر تغريبا لأبنائها وفصلهم
عن حضارتهم وأعرافهم وتقاليدهم.
لم يثن ذلك التخوف الشعبي عزم محمد علي،
فأرسل سنة 1813 أول بعثة، وكانت نحو إيطاليا، فيما كانت أول بعثة علمية إلى فرنسا
سنة 1826، وكانت تضم أربعين طالبا. كان منهم تلاميذ مدرسة القصر العيني ومدرسة
الطب. وأمرهم محمد علي:" بتعلم الفنون العسكرية والقوانين الإدارية والهندسة
المدنية والحربية. وعلى الإجمال جميع العلوم التي كان الباشا مضطرا –من أجلها- إلى
استخدام الغربيين لعدم وجود مصريين خبيرين فيها. فنجحت تلك البعثة نجاحا حمل الباشا
العظيم في سنة 1834 تقريبا على إيجاد نيف ومائة طالب بباريس وعلى إبطال البعثات
إلى إيطاليا وإنجلترا والبلاد الأخرى". وكان من بينها نقولا مسابكي أفندي الذي أرسله محمد علي لدراسة فن الطباعة في مصر
وأصبح مديرا لمطبعة بولاق سنة 1821، واستمر في منصبه حتى توفي عشر سنوات بعد ذلك. كما جعل محمد علي كبار علماء مصر على رأس دفعة الطلبة المتجهة إلى باريس والتي كان
الطهطاوي من بينها، وهم عبدي أفندي المهردار، ومصطفى مختار أفندي الدويدار، والحاج
حسن أفندي الإسكندراني.
أولى محمد علي مهمة الإشراف على هذه
البعثة إلى الفرنسي جومار. وقد ارتفع عدد طلبة البعثة إلى 100 طالب مع سنة 1833.
مما يبين الأهمية الكبرى التي أولاها محمد علي للإرساليات العلمية والتكوين
بالخارج على الطريقة الأوربية الحديثة مما يبين نواياه في الخروج عن الطريقة
التقليدية والتي كان يراها سبب التخلف والانحطاط الذي ضرب الدولة العثمانية، وهي
نفس الطرق التقليدية البدائية التي رأى أنها ضربت أيضا مصر تحت المماليك. أي أن
هذه الإرساليات العلمية كانت بمثابة ثورة محمد علي على النمط القديم والرغبة في
الدخول إلى الحداثة حتى ولو كانت تحركه فيها أطماع شخصية كأن يجعل من نفسه خليفة
على المسلمين أو أن يحكم مصر باستقلالية تامة ويمتلك من القوة والعلم الحديث ما
يبعد عنه الأطماع الأوربية.
قام جومار بمهمته خير قيام، كيف لا وهو
الذي تدفعه أهداف الحملة وهو واحد من كبار علمائها الذين يريدون ربط مصر بالحضارة
الغربية فاختار "لها (المدرسة) مدرسين أكفاء، وخصّ كل واحد من التلاميذ
بدراسة فرع من العلوم خاصة ليتقنه. وكان ممن تعلم بهذه المدرسة إسماعيل باشا
الخديوي والأمير أحمد والأمير مصطفى فاضل والأمير حليم باشا وشريف باشا ومراد باشا
وعلي مبارك باشا. ثم أرسل عام 1248 هـ (1832 م) اثنى عشر طالبا آخرين إلى باريس
ليتمموا علوم الطب، ثم أرسل غيرهم حتى صار ما أرسله إلى أوربا إلى عام 1258 هـ
(1842 م) يربو على مائة وعشرين طالبا، أكثرهم إلى فرنسا، وقليل منهم إلى إنجلترا
وألمانيا".
وكان طلبة البعثة الأولى يدرسون طبقا
للتخصص المراد متابعته فيما بعد، فكان منهم من اتجه إلى الإدارة الحربية، وقسم
توجه إلى الإدارة الملكية ليتفرغ للسياسة فيما بعد، والفوج الثالث توجه لدراسة
الهندسة الحربية وعلم المدفعية. أما الفرقة الرابعة فاتجهت لدراسة المعادن
والكيمياء، ومنهم من توجه إلى دراسة فن الزراعة وآخرون إلى التاريخ الطبيعي،
ومجموعة أخرى إلى الترجمة. وهكذا توزع الطلبة المصريون بمعاهد التكوين الفرنسية
على يد إطارات دولة فرنسيين.
مع هذا التكوين، صار لمصر علماؤها في مختلف
التخصصات، فنجد في الحربية إبراهيم بك، وأحمد أفندي، وأحمد أفندي خليل، والخديوي
إسماعيل، وأحمد بك عبيد، ورشيد أباظة، وعبد الرحمن بك، ومحمد خفاجة...، وفي
القانون والسياسة نجد على سبيل المثال: عبد الله السيد، نوبار باشا، محمد أفندي
خسرو، رفاعة الطهطاوي، وكذلك في الصيدلة، وفي الطب، والمعادن والزراعة
والكيمياويات...
ومن الطلبة الذين التحقوا بأوربا وبفرنسا
على الخصوص ودرسوا بها، نجد رفاعة الطهطاوي الذي صار فيما بعد مديرا لمدرسة
الألسن، وحسن بك الذي أصبح وزيرا للحربية، والمهندس مصطفى محرمجي ، والطبيب الجراح
محمد علي باشا، ومختار بك الذي تقلد منصب وزير المعارف، ومهندس القناطر الخيرية
مظهر بك، ومحمد شافعي الذي تولى إدارة مدرسة الطب، ومحمد السكري الذي أصبح مدرسا
بالمدرسة نفسها.
وبأوربا، وحسب رسالة جومار إلى محمد علي
سنة 1828، نعلم "أنه خصص تلميذين بدرس العلوم السياسية، وكان يدرّس لهما
قانون حقوق الدول والاقتصاد السياسي وأكثر لغات أوربا المستعملة في السياسة،
وتنقلا في بلاد أوربا للوقوف على عادات أهلها. واختار أربعة للإدارة العسكرية،
وثلاثة للبحرية، وثلاثة للعلوم الآلية (الميكانيكية): يتعلمون الهندسة العلمية،
ويتدربون في المعامل، ويتمرنون على الأشغال اليدوية، وخص فرقة بفن المدفعية
والاستحكامات. وتفرغ منهم أيضا عدد لدرس الكيمياء الصناعية، وخاصة ما يتعلق
بالصباغة، وعمل الزجاج وصناعة السكر، ليكونوا مديرين للمعامل التي شيدت في مصر،
وخص بعضهم بالزراعة العلمية والتاريخ الطبيعي والتعدين، وذلك للبحث عما عساه أن
يوجد في مصر من المعادن".
كان إصرار محمد علي على تعليم أبناء مصر، وإرسال
البعثات العلمية هذه يبيّن أنه كان يعد لمستقبل أبناء مصر على المنهج الفرنسي
لإشراكهم في الحكم. ولذا فتحت أمام تلاميذ البعثات العلمية هذه سبل الوصول إلى هرم
السلطة. ونجد منهم أبناء الحكام الذين سيمر معنا أنهم تمدرسوا قبل ذلك بمدرسة
القصر العيني. وكذلك الحال مع تلاميذ الأزهر الشريف، الذين اصطفى منهم محمد علي نخبة،
وأرسلهم للتكوين في أوربا إعدادا لهم لمستقبل مصر، وصناعة للإفتاء ومناصب الدين
فيها. و نجد في مقدمة أولئك الطلبة " عبده بك، ومختار بك. وقد تولى أحدهم
رياسة مجلس الحكومة، والآخر إدارة المعارف العامة، وحسن بك الذي عهدت إليه نظارة
البحرية وأمير بك مدير فاوريقة ملح البارود، واسطفان أفندي عضو مجلس الحكومة،
والشيخ رفاعة رافع أستاذ التاريخ والجغرافيا ثم ناظر مدرسة الترجمة، ومظهر ومصطفى
المهندسان، ومحمد بيومي أستاذ الرياضة، وحسن الورداني ومحمد مراد ومحمد إسماعيل
المعلمون في النقش والزخرفة والرسم، وأحمد يوسف مدير دار الضرب، ومحمد نافع وأحمد
الرشيدي وغيرهما من الأطباء الأساتذة بمدرسة القصر العيني، وحسين الرشيدي مدير
معمل الصيدلة. وغير هؤلاء كثير منهم المدفعيون، ومنهم الموظفون في الفاوريقات،
ومنهم المزارعون وغيرهم ممن امتازوا بالبراعة".
كان محمد علي متأثرا كثيرا بالدور الفرنسي
الذي من الممكن أن يحدثوه في مصر إذا عملوا تحت رقابته هو شخصيا ووفق الأهداف التي
رسمها شخصيا. وكان تأثره بتقدم العلوم بأوربا وفرنسا خصوصا وكذا تأثره بالحداثة
الفرنسية التي دخلت بها إلى مصر كل ذلك انعكس على المجتمع المصري الذي أصبح مقلدا
للفرنسيين وينظر إليهم بنظرة العظمة وتلك خصائص الشعوب المغلوبة على أمرها. فقد
حطم المماليك إمكانية نهضة الشعب المصري، وجعلوه مخدرا بعيدا عن نور العلم ومسايرة
العصر. "وكان ادخاله العلوم الحديثة في البلاد ونبوغ الذين تعلموها في مدارس
أوربا من المصريين من الدواعي التي أدت إلى محو كثير من الاعتقادات القديمة في
التعليم" عند المصريين.
وفي إطار اعتماد محمد علي على الخبرة
الفرنسية التي تقاطعت مصالحه معها، فقد
كان يريد تحقيق نهضة مصر، ووجد القوة العلمية في العلماء الفرنسيين. بينما كان
هؤلاء العلماء يهدفون إلى غرس أفكارهم، وخدمة مشروع الحملة واحتلال مصر وفرنستها
وتغريبها وخلق فئة مثقفة مستعدة لذلك. وقد سارع محمد علي إلى تنفيذ مشروع
أونفونتان في النهوض بالتعليم، وهو مشروع إعادة تنظيم المدارس الذي قدمه إلى
سليمان باشا الفرنسي والذي ينص على تأسيس مجلس التعليم العام، واللجنة الاستشارية
للعلوم والفنون. وهو ما قام به محمد علي، وعهد برئاسة المجلس إلى مصطفى مختار بك،
وعضوية كل من لامبير وكلوت بك وحكيكيان أفندي ورفاعة الطهطاوي ومحمد أفندي بيومي
وآخرون... وقد اقترح المجلس سنة 1836 تقسيم التعليم إلى ثلاثة أنواع وهي: المدارس الابتدائية والمدارس التجهيزية
والمدارس الخاصة أو العليا. وقد تولى المجلس ضبط الأمور التنظيمية لكل نوع من هذه
الأنواع.
كما تكونت سنة 1841 لجنة تنظيم التعليم التي
ترأّسها سليمان باشا الفرنسي. وقد جاءت هذه اللجنة في ظروف استثنائية إثر العلاقات
الجديدة بين مصر والدولة العثمانية بفعل معاهدة لندن 1840. وذلك رفقة كل من السادة
رفاعة الطهطاوي مدير مدرسة الألسن، وبيرون مدير مدرسة الطب.وظل حكيكيان بالمهندس
خانة رفقة لوبير قبل أن ينتقل منها بعد ثلاث سنوات. أما لومبير فواصل عمله على رأس
إدارة المهندس خانة هذه إلى غاية سنة 1849 وهي السنة التي خلفه فيها الشيخ علي
مبارك وهو مصري آخر عاد من فرنسا ليتولى الإدارة والنشاط في خدمة بلاده مصر. وقد
"اعترفت اللجنة بالتقدم العظيم الذي أحرزته المدرسة في النهضة العلمية، وعزت
ذلك إلى دقة ناظرها لامبير وهمة أساتذتها. وخلصت من ذلك إلى تقرير الإبقاء عليها
لأهمية خريجيها. ولما تولى إبراهيم باشا الحكم في يونيو (جوان) 1848 عقب اعتزال
أبيه وشرع في تنظيم التعليم على أسس جديدة كان ساعده الأيمن في ذلك لامبير بك ناظر
مدرسة المهندسخانة".
وباعتبار اعتماد محمد علي على الخبرة
الفرنسية دوما والاهتمام بالنموذج الفرنسي في التعليم، فإن جهود لامبير هذه لم
تقتصر على مدرسة المهندسخانة فحسب، بل كان مدرسا لمادة الرسم في مدرسة السواري
أيضا وكان "يخرج بالتلاميذ إلى الصحراء ليعلمهم تخطيط البلاد، كما ساهم أيضا
في عام 1836 في اللجنة التي نيط بها تنظيم مدرسة الطوبجية" والتي قصد بها
مدرسة المدفعية التي تأسست بطرة شهر مارس 1840 وتولاها برونو Bruneau، وقد استمرت إلى غاية أفريل من سنة 1847. أدارها خلال هذه الفترة
برونو بنفس المنهج والمنهاج الذي سارت عليه مدارس فرنسا. هذا وقد تولى ديشارم
تدريس مصلحة الطرق والجسور خلال فترة 1838 – 1845.
4_
إنشاء المدارس الحديثة على النهج والمنهج الفرنسيين:
افتتح محمد علي مدارس كثيرة لاستقطاب أبناء
الشعب المصري للدراسة في مختلف مناطق البلاد وذلك على فترة من الجهل سادت قرون.
فكانت المدارس الأولى سنة 1827 واشتملت على أربعين مدرسة ابتدائية بالوجه البحري و
26 مدرسة بالوجه القبلي، ومدرستين تجهيزيتين إحداهما بالقاهرة والأخرى بالإسكندرية
إضافة إلى مدارس عليا متخصصة في اللغات والألسن، وفي الطب والبيطرة، وفي العسكرية
والهندسة والفلاحة، وكذا في الموسيقى والتقنيات أو الصنائع. وقد بلغ عدد تلاميذ هذه المدارس قرابة الأحد عشر ألف تلميذ.
وبفعل انتشار الجهل، اضطر محمد علي إلى
الإلحاح في تعليم أبناء مصر إلى ما يشبه إجبارية التعليم، وذلك بعد أن رأى فتور
همم المصريين في هذا الجانب. وذلك أمر بديهي إذا عرفنا حياة الجهل التي كان عليها
الفلاحون وأبناؤهم وهم الغالبية العظمى للشعب المصري، (أكثر من 10 آلاف طفل بدون
تمدرس)، مما اضطر محمد علي إلى العمل على تكفل الدولة بالتلاميذ من خلال الإطعام
والكسوة وحتى المنحة الشهرية. ورغم ذلك، فقد كان الآباء يمتنعون عن إرسال أبنائهم إلى المدارس مما يضطر محمد علي
إلى دفعهم إلى الدراسة بالقوة، وقد أصبح من بين أولئك الممتنعين نوابغ سادوا
البلاد بعد ذلك.
ولو ترك محمد علي الناس على رغباتهم
وإرادتهم لما التحق بمدارسه إلا عدد قليل من التلاميذ، ذلك لأن محمد علي أراد
التعليم تعليما حداثيا مبنيا على طريقة أوربية حديثة. أما المصريون فقد كانوا لا
يزالون على مستوى التعليم البدائي وطريقته المعتمدة منذ العصور الوسطى. وبينما وجه
محمد علي التعليم إلى إقامة أمور الدنيا، كان المصريون يعتقدون أن التعليم لابد أن
يقوم على إقامة الدين، ونسوا أن إقامة الدنيا هو من الدين أيضا. وذلك لبساطة
المستوى الثقافي الذي كانوا عليه تحت حكم المماليك. " فالمصريون كانت قلوبهم
تهفو إلى التعليم الدينى بحكم الثقافة التى عاشوا فى ظلالها قرونا ولو تركوا
لرغباتهم فقلما كانت المدارس التي أقامها الوالي ستجد من يقبل على الالتحاق بها
على الرغم من مجانيتها". وحكمت الحياة التعليمية داخل مؤسسات التعليم الأساليب
العسكرية التى تقوم على الفرض والإملاء بغير مناقشة: فالمعلمون يحملون رتبا
عسكرية، وكذلك الطلاب. ونظام الدراسة نفسه يقوم على النهج العسكري من حيث النداء
على أوقات الدروس
ومن حيث الدخول والخروج والاستيقاظ والنوم وتناول الطعام، وتميزت العقوبات بالقسوة
بحكم عسكريتها: فقد كان منها الضرب بالكرباج، ولبس الجاكتة بالمقلوب، والحبس في
غرفة مظلمة، وتنزيل الرتبة، والحرمان من الرتبة".
ومن التأثير الفرنسي في الحياة العلمية
بمصر نذكر أن نوبار باشا سكرتير إبراهيم باشا كان يرغب في الجمع بين التعليم
والتربية أي التأثر بالفرنسيين خصوصا والغرب عموما، لأنه كان يرى أن أخذ العلم
مفصولا عن العادات والتقاليد والتفتح على العالم لا جدوى منه، ولذا وجدناه قد رفض
فكرة بقاء التلاميذ المصريين المبعوثين إلى فرنسا في مدرسة واحدة لأنهم، في رأيه
لن ينتفعوا بشيء حتى ولو نالوا أعلى الشهادات وقد وافقه إبراهيم باشا في طرحه هذا،
وعزم على تغيير ذلك بتفريق التلاميذ على مدارس فرنسا، وكان فكر في إلزامهم
بالاختلاط بالجنسيات الأخرى وألا يبقوا حبيسي ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ويمكن أن نشير هنا إلى أبرز المدارس المصرية التي تأسست في تلك الفترة.
1-
مدرسة الطب والبيطرة:
طلب الدكتور كلوت بك من محمد علي تأسيس
مدرسة للطب فاستجاب له محمد علي وأسس مدرسة الطب والبيطرة سنة 1827، فكانت من بين
المدارس الأولى التي شيدها محمد علي بمصر. وقد كان للأزهريين فيها نصيب كبير، وجعل
مقرها بالمستشفى. لأن محمد علي كان يؤمن بضرورة التمرن على ما يدرسه نظريا، وأن يكون الطالب قريبا
من واقع دراساته النظرية لتحويلها إلى خبرة مهنية ملموسة. ولذا كان طلبة الطب
ملزمين بقضاء أوقات بالمستشفى، بعد أن كانت البلاد العربية عموما ومصر خصوصا تعيش
على الطب التقليدي المنبثق أساسا على الطب النبوي الشريف. كما كان طلبة الحربية
ملزمين هم الآخرون بقضاء أوقات في ميادين الحرب والحضور إلى المناورات العسكرية
...وهذا في حد ذاته تقليدا لفرنسا وأوربا بصفة عامة.
وباعتبار أن محمد علي كان قد أراد تحديث
الجيش فإنه أيضا أراد أن يجعل للجيش أطباؤه من المصريين، وكان هذا هو الهدف الأسمى
من وراء مدرسة الطب هذه. حتى لا يكون حكام مصر وكذا جيشها بحاجة إلى التداوي
بأوربا في ظل تنافس استعماري معلوم الأهداف والوسائل.
جعل محمد علي مدرسة الطب هي الأخرى تحت
إدارة ومتابعة الفرنسيين من خلال الطبيب كلوت بك الذي خاطبه محمد علي قائلا:"
يجب أن يكون بمصر مدرسة للطب يكون تلاميذها من المصريين المخلصين، الذين يغارون
على بلادهم ويحبون تقدم وطنهم. ويتوصل إلى ذلك بإنشاء مستشفى عمومي يتعلم فيه مائة
وخمسون شابا ممن لهم إلمام تام باللغة العربية قراءة وكتابة ومبادئ الحساب. ويجب
أن تدرس لهم اللغة الفرنسية وأنواع الطب بفروعه لاسيما الجراحة. وتكون مدة الدراسة
بها أربع سنوات، يختبر التلاميذ في آخر كل سنة منها". واختار لها كبار أساتذة الطب في أوربا "ومعظمهم من الفرنسيين يدرسون علوم
التشريح والجراحة، والأمراض الباطنية، والمادة الطبية، وعلم الصحة، والصيدلة،
والطب الشرعي، والطبيعة والكيمياء، والنبات، وكان فيها أساتذة آخرون لتدريس اللغة
الفرنسية لطلبة الأزهر". ومع سنة 1841 أسند محمد علي مهمة إدارة مدرسة الطب إلى الطبيب الفرنسي بيرون لمدة
أربعة سنوات إلى غاية استقالته من منصبه أواخر سنة 1845.
وإضافة إلى الطب، اهتم محمد علي أيضا
بالبيطرة وأنشأ لها مدرسة مجاورة لمدرسة الطب وسماها مدرسة البيطرة، وجعلها تحت
رئاسة الفرنسي هامون.
2-
مدرسة الألسن:
بسبب الانبهار الذي حصل في محمد علي بفعل
القوة الأوربية والفرنسية منها على الخصوص، والتي رأى كيف وصلت إلى ذلك التقدم
الحداثي، وكيف استطاع علماؤها أن يفكوا رموز الكتابة الهيروغليفية... ومن أجل تعلم
اللغة الفرنسية والاطلاع بها على تقدم العلوم الحديثة وما وصلت إليه أوربا من تقدم
هددت به مصر والدولة العثمانية وكل البلاد العربية والإسلامية، أسس محمد علي مدرسة
الألسن سنة 1836 وجعل على رأسها علي مبارك الذي قال عنها مايلي:" عرض رفاعة بك على محمد علي
تأسيس مدرسة لتعليم اللغات الأوربية ينتفع بها الوطن، ويستغني بمن يتخرج منها عن
الدخيل. فأجابه إلى ذلك ووجه به إلى مكاتب القطر لينتخب التلاميذ لهذا الغرض، فأسس
المدرسة وعند الامتحان امتحن التلاميذ في اللغة الفرنسية وغيرها من العلوم
المدرسية فظهرت نجابتهم، ثم أنشأ بها قلما للترجمة تُرجم فيه كثير من الكتب
الأوربية في كل فرع من العلوم. وكان بهذه المدرسة أيضا قسم تجهيزي خاص، فنبغ فيها
رجال بارعون في إنشاء اللغة العربية والعلوم. غير أن هذه المدرسة قد ألغيت في عهد
عباس باشا الأول".
3-
مدرسة
الهندسة:
بفعل النشاطات التي قام بها الفرنسيون على
عهد الحملة وخاصة بقناة السويس والملاحظات التي سجلها مهندسوهم، ونظرا لاكتشاف
محمد علي أهمية فيلق الهندسة في الجيوش وفي الحياة المدنية عن طريق الأشغال
العمومية، وبفعل اقتراح أونفونتان قائد التيار السانسيموني بمصر، وفي ظل هذه الاهتمامات من محمد علي، أسس مدرسة متخصصة في هذا المجال سماها مدرسة
الهندسة، واختار لها الخانقاه موقعا، وأسند إدارتها إلى السانسيموني الفرنسي السيد
ماشيرو. وكان ذلك من اقتراح أونفونتان كما ذكرنا، حين دعا المهندس الفرنسي لينان يوم: 09 مارس 1834 إلى إنشاء مدرسة الهندسة بمنطقة
القناطر، في إطار الاستثمار السانسيموني الفرنسي بمصر. وهو ما كان يتناسب مع أفكار
محمد علي، الذي كان قد استنجد سنة قبل ذلك بمهندس إنجليزي لتدريس تلاميذ القصر
العيني، ونقلهم إلى منطقة القناطر سنة 1835. وتولى تدريسهم بها الأستاذ المهندس
محمد أفندي بيومي، وهو خريج مدرسة الهندسة بفرنسا مما جعل التدريس بها متشابها مع
الدراسة بباريس. لأن المناخ العلمي المحيط هو واحد بين فرنسا وبين مدرسة القصر
العيني (المدرس فرنسي بيومي أفندي، المنهاج واحد، المنهج واحد...). كما أن هؤلاء
التلاميذ هم أبناء الطبقة الحاكمة في مصر وهم حكام المستقبل فيها.
وبفعل اهتمام الخبراء الفرنسيين بالاستحواذ
على مشروع قناة السويس أو جعلها منطقة دولية على الأقل وبفعل اهتمام محمد علي بإنشاء
مدرسة الهندسة هذه ونظرا للكفاءة العلمية المتوفرة أيضا بفعل أولئك العلماء الفرنسيين،
ارتفع عدد تلاميذ مدرسة الهندسة بالقصر العيني إلى أكثر من ستين تلميذا، وصار
باستطاعتهم الجمع بين الدراسة النظرية والدراسة التطبيقية بعدما جاءت شركة لينان
لبناء الجسور في منطقة القناطر لولا توقف مشروع القناطر هذا. مما جعل محمد علي
ينقل تلاميذ مدرسة القصر العيني إلى مزاولة دراستهم بمدرسة المهندس خانة ببولاق في
السنة الموالية 1836. وكان اهتمام الطلبة بالدراسة بهذه المدرسة على أشده لأنه من تخرج منهم منها سيكون
له المستقبل السياسي في مصر باعتبار أن أبناء حكام مصر كلهم يزاولون دراستهم بها.
4-
مدرسة المعادن:
أنشأ محمد علي سنة 1834 مدرسة متخصصة في
المعادن وجعل على رأسها السيد لومبير وهو أحد المتخصصين في هذا المجال وكان يمارس
نشاطاته بالجزائر. ومع انشاء مدرسة المهندسخانة ضمت المدرسة الأولى إلى الثانية في
بولاق كما ضمت إليها مدرسة القناطر أيضا. وقد حاولت الخبرة الفرنسية ممثلة في
السيدين أونفونتان ولومبير ومن معهما في جعلها على شاكلة المدارس الفرنسية. وقد
أصبح لومبير مدرسا بها ثم مديرا لها بمساعدة حكيكيان قبل أن يتم توظيف 04 مهندسين
مصريين متخصصين في المعادن كانوا قد عادوا من فرنسا دون أن يتمّوا دراساتهم بها.
وقد تولى التدريس بها كل من لومبير في مواد: الرياضيات والطبيعيات والكيمياء
والخرائط، وحكيكيان في البناء.
5-
مدرسة
الزراعة:
وإذا كان علماء الحملة الفرنسية ومن بقي
منهم بعد خروج الفرنسيين من مصر يهدفون إلى توجيه الاقتصاد المصري وربطه بالاقتصاد
الفرنسي، وخلق غزو اقتصادي فرنسي لمصر تُطبق فيه الطرق الفلاحية الفرنسية بمصر.
فإن محمد علي كان يهدف إلى تحديث الفلاحة بغية النهوض بالاقتصاد المصري بعد الركود
المملوكي. فأنشأ المدرسة الزراعية بنبروة سنة 1836، واستعمل فيها مختلف العلوم
للخروج من الإقطاع وسياسة التيمارات التي كانت سائدة أيام عصر المماليك. وجاء لها
بالمتخصصين في العلوم الفلاحية من أوربا عموما، ومن فرنسا خصوصا وجهزها بما نصحه
خبراؤه فأحضر التجهيزات من أوربا أيضا، وبعد أن لاحظ عدم إقبال الفلاحين عليها
واكتفائهم بممارساتهم الفلاحية التقليدية نقل مقر المدرسة إلى شبرا ووضعها تحت
مسؤولية السيد ماهون قبل أن يضطر لغلقها لنفس الأسباب.
كان الهدف متباينا إذن بين علماء الحملة
وبين محمد علي من وراء هذه المدرسة ومن المدارس المذكورة سابقا، ولكن في نهاية
المطاف سار محمد علي بنجاح إلى تحسين نوعية المحاصيل وجودتها لرفع مكانة مصر
الاقتصادية ولفرض مكانتها بين دول المتوسط، حيث كان يرى إمكانيات ذلك متوفرة، ولا
ينقصها سوى الجهد البشري والتخطيط الرشيد. ومن بين الذين استجاب لهم محمد علي وطبق
أفكارهم من أجل بناء نهضته في مصر مستغلا الطمع الفرنسي فيها نذكر جوميل الذي كان
وراء جلب محمد علي القطن من الهند سنة 1821، وتوسيع دائرة زراعته والاهتمام به حتى
صار من أهم منتوجات مصر الزراعية، ومن أهم ثرواتها الاقتصادية على الإطلاق. كما
شجع محمد علي تربية دودة القز والاهتمام بها وخاصة في الوجه البحري وغرس لها هناك
أكثر من ثلاثة ملايين شجرة توت. هذا إضافة إلى زراعة القنب بغرض استعمالها في
الصناعة وفي الخدمات اليومية، لأنها الأداة الأساسية لصناعة الحبال لا سيما
الموجهة للأساطيل. كما جاء بالعمال المتخصصين من آسيا الصغرى للاشتغال في الغابات
للحصول على الأخشاب من أجل صناعة السفن.
ولتنشيط الإنتاج الزراعي استثمر
أيضا محمد علي في الأطماع الفرنسية الهادفة إلى توجيه الاقتصاد المصري توجيها يخدم
الاقتصاد التجاري الفرنسي على حساب الاقتصاد المعاشي للشعب المصري، من خلال أطماع
علماء الحملة في صورة كل من المهندسين الفرنسيين كوستا وماسيه اللذين استغل محمد
علي أطماعهما الاستعمارية هذه في شق ترعة المحمودية بين رشيد والإسكندرية لربط
القاهرة بالنيل سنة 1819.
6-
المدرسة
الحربية:
أنشأها محمد علي سنة 1816 من دون العنصر
المصري، فقد ضمت شباب وأطفال المماليك الذين كانوا في خدمتهم قبل مجزرة القلعة.
وجه محمد علي هؤلاء الشباب إلى مدرسة القلعة فتعلموا بها القرآن الكريم واللغة
التركية إضافة إلى الفروسية ومختلف التدريبات العسكرية. قبل أن يرسلهم إلى المدرسة
المستحدثة وهي مدرسة الأورطة. وكذلك مدرسة القصر العيني التي أرسل إليها حوالي 500
تلميذا من الأتراك والشراكسة والأرناؤوط والأكراد واليونانيين والأرمينيين. ولم يضم هذا العدد مصريا واحدا "ليتعلموا
القرآن والكتابة والقواعد اللغوية والآداب التركية والفارسية ومبادئ اللغة العربية
والحساب والهندسة والجبر والرسم واللغة التليانية (الطليانية) لأنها كانت لغة معظم
مدرسي العسكرية الناشئة وجعل اللغة التركية أساس التعليم كله".
بفعل الظروف الدولية السائدة آنذاك والتي
يميزها التنافس الاستعماري الفرنسي البريطاني على الضفة الجنوبية للمتوسط ، وكذا
أطماع محمد علي في تقوية مصر لاستخلاف الدولة العثمانية على عرشها. كان محمد علي
مستعجلا في استحداث الجيش، ولذا، ولما رأى أن عملية بناء الجيش وتكوينه بهذه الطريقة
ستطول مقارنة مع خطته في تحديث الجيش، أرسل سنة 1826 البعثات العلمية إلى ليفورنو
وروما وميلانو وفلورونسيا والهدف من ذلك هو تعلم فنون الحربية الحديثة والهندسة
وصناعة بناء السفن والطباعة. كما أرسل سنة 1828 بعثة إلى إنجلترا بغرض دراسة
الهندسة المدنية والميكانيك وعلم الملاحة البحرية وهندسة الآلات المائية.
-----------------------------------------------------

تعليقات
إرسال تعليق