الاستكشاف العلمي الفرنسي لمصر
وتوظيف العلم والعلماء في خدمة الاستعمار
1_ إنشاء الموسوعات والهيآت العلمية:
1_ موسوعة وصف مصر:
لما نتحدث
عن موسوعة وصف مصر فإننا نتكلم عن تلك الأعمال العلمية التي قام بها علماء الحملة
الفرنسية على مصر بداية من 1798 تاريخ حملتهم على مصر، والتي استمرت إلى ثمانينيات
القرن التاسع عشر على عهد خلفاء محمد علي.
كانت مصر موضوع اهتمام الفرنسيين قبل تنفيذ
الحملة، ولذا كان نابليون -وهو متعود على ذلك في حملاته على أوربا- يسعى إلى
اصطحاب جيش من العلماء في حملته على مصر لدراستها دراسة علمية تسهل عملية الاحتلال
وتضمن الاستفادة منه. ويقول السيد بانكوك في مذكرته إلى وزير الداخلية السيد سيمون
:"كانت مصر موضوعا لعدد ضخم من المؤلفات، كما وصفت من قبل مرات كثيرة، لكن
أحدا لم يتمكن، حتى وقت قريب، من الحصول على معرفة تامة ودقيقة عن هذه المنطقة من
العالم. كان ذلك يتطلب في الحقيقة حدثا غير عادي، وظروفا مواتية لا يستطيع أن يهيئها
إلا جيش منتصر، حتى تتهيأ الوسائل اللازمة لدراسة مصر بالعناية التي تليق
بها".
تجسدت
الأعمال الأولى لموسوعة وصف مصر في تلك الملاحظات والمذكرات والدراسات التي قام
بها علماء الحملة وعسكريوها بأمر من نابليون وبإشراف من مونج. وكذلك في تآليف
المعهد العلمي المصري باعتبار أن نابليون قد أولى له اهتماما خاصا، وجعل منه هيئة
مسؤولة عن البحث العلمي في مصر موظفة لخدمة الاستعمار واستمراره. وأسس له المكتبة
العامة والمتحف المصري ليكونا المكان الأمين لحفظ ما تم جمعه أو تأليفه في تاريخ
مصر وحضارة البحر المتوسط منذ أقدم العصور إلى دخول الفرنسيين. خاصة وأن الفرنسيين
كانوا على اهتمام كبير بتاريخ مصر والشرق عموما، كما أنهم كانوا ولعين فخورين بما
كتبوه عن مصر حتى قال فورييه وهو أحد علماء الحملة بمصر:"لم يسبق لأي بلد آخر
أن خضع لأبحاث بمثل هذا الشمول وهذا التنوع، وفضلا عن ذلك فليست هناك بلاد أخرى
جديرة بأن تكون موضوعا لأبحاث كهذه، فمعرفة مصر أمر يهم في الحقيقة كل الأمم
المتحضرة".
وبعد الاطلاع على محتوى الموسوعة العلمية يمكننا بناء
على ذلك تقسيم الموسوعة إلى الأصناف التالية:
1-
الملاحظات والمذكرات التي سجلها علماء الحملة وهي التي جمعت في بداية
الأمر، وطبعت حفاظا عليها من الضياع بسبب الحروب التي كانت عليها فرنسا لا سيما
بعد أسر نابليون بونابرت في معركة واترلو ونفيه فيما بعد إلى جزيرة سانت هيلانة.
وقد تم طبعها في 28 مجلدا تحت اسم "وصف مصر" أو مجموعة الملاحظات
والأبحاث التي أجريت في مصر أثناء حملة الجيش الفرنسي. ثم عدّلوا في مقاييس حجم
المجلدات ونوعية صفحاتها، فاختزلوا عدد المجلدات إلى أحد عشر مجلدا مع بقاء
المحتوى على أصله. وقد طبعت هذه الموسوعة خلال الفترة الممتدة بين 1809 و 1822. فأما
الجزءان الأول والثاني فطبعا بأمر من نابليون قبل أسره، وأما الأجزاء التسعة
الموالية فطبعت بأمر من الحكومة الفرنسية.
شملت هذه الأجزاء الأحد عشر المجالات التالية:
المجلد الأول: وجاء تحت عنوان: المصريون المحدثون. وضمت الدراسات التالية:
1-
جيبار جوزيف غاسبار دي شابرول
(شابرول دي فولفيك)، دراسة في عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين.
2-
بانكوك، مذكرة مقدمة إلى وزير الداخلية السيد
سيمون بخصوص إعادة طبع كتاب وصف مصر. وهي في الأصل دون عنوان.
3-
البارون لاري، دراسة موجزة حول البنية الجسدية
للمصريين.
4-
فورييه، مصر والحملة الفرنسية، مقدمة تاريخية.
المجلد الثاني: وجاء تحت عنوان: العرب في ريف مصر وصحراواتها. وضم الدراسات التالية:
1-
غراتيان لوبير، دراسة موجزة عن
الجزء الغربي من ولاية البحيرة والذي كان يعرف قديما باسم إقليم المريوطية. أو
جولة في إقليم المريوطية.
2-
الجنرال أندريوسي، دراسة موجزة عن وادي بحيرات
النطرون وعن النهر بلا ماء، حسب المعلومات التي حصلنا عليها من جولة استكشافية تمت
بين 23 و 27 جانفي 1799. أو رحلة إلى وادي النطرون.
3-
ج. مونج، دراسة موجزة عن عيون موسى.
4-
ج. كوتل، ملاحظات حول طوبوغرافية شبه جزيرة سيناء، التقاليد، العادات،
الصناعة، التجارة، الشعب والسكان. أو ثمانية وعشرون يوما في سيناء.
5-
ب. م. مارتان، وصف هيدروغرافي لولايتي بني سويف والفيوم.
6-
إ. جومار، ملاحظات عن العرب في مصر الوسطى. أو العرب والعربان في مصر
الوسطى.
7-
دي بوا، وإيميه غولوا، مقالة عن القصير وضواحيها، وعن الأقوام التي تسكن
هذه المنطقة التي كانت في الأزمنة القديمة مقرا لسكان الكهوف. أو القصير
والعبابدة.
8-
دي بوا، إيميه غولوا، دراسة موجزة عن القبائل العربية في صحراء مصر.
9-
دي بوا، إيميه غولوا، دراسة موجزة عن إقامة العبرانيين في مصر وعن هروبهم
إلى الصحراء. أو كيف خرج اليهود من مصر القديمة.
10-
أميديه جوبير، حصر شامل للقبائل العربية التي تقطن بين مصر وفلسطين ابتداء
من خان يونس وغزة حتى نهر العاصي، والجزء الشمالي من الصحراء التي تفصل مكة عن
سوريا.
المجلد الثالث: وجاء تحت عنوان: دراسات عن المدن والأقاليم المصرية. ويشتمل على ثلاث عشرة دراسة، جاءت على الشكل التالي:
1-
مالو، مستخلص عن الحالة القديمة
والحديثة للأقاليم الشرقية لمصر السفلى. أو رحلة إلى شرق الدلتا.
2-
أندريوسيه، دراسة عن بحيرة المنزلة.
3-
شابرول ولانكريه، نبذة طوبغرافية عن الجزء من أرض مصر الواقع بين الرحمانية
ومدينة الإسكندرية، وعن ضواحي بحيرة مريوط. أو رحلة إلى غرب الدلتا.
4-
دي بوا، إيميه غولوا، رحلة إلى أعماق الدلتا.
5-
جراتين لوبير، جولة بين بحيرات مصر.
6-
دي بوا، إيميه غولوا، الحدود القديمة للبحر الأحمر (01).
7-
دي بوا، إيميه غولوا، الحدود القديمة للبحر الأحمر (02).
8-
كوستاز، دراسة عن النوبة والنوبيين.
9-
إيميه غولوا، وصف مدينة الرشيد.
10-
لانكريه، شابرول، دراسة موجزة عن ترعة الإسكندرية.
11-
غراتيان لوبير، دراسة عن مدينة الإسكندرية.
12-
دي بوا، إيميه غولوا، مذكرة حول فروع النيل القديمة ومصباتها في البحر.
13-
لانكري، مفكرة حول الفرع الكانوبي.
المجلد الرابع: وجاء تحت عنوان: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر. وهو يمثل الجزء الأول من الدراسة الاقتصادية حيث تناول: الزراعة، الصناعات والحرف،
التجارة. من تأليف السيد جيرار.
المجلد الخامس: وهو الجزء الثاني من دراسة " الحياة الاقتصادية في مصر في القرن
الثامن عشر". وتناول النظام المالي
والإداري الاقتصادي في مصر العثمانية. وقد ألفه علماء الحملة الفرنسية بالاشتراك:
لانكريه، استيف، روزيبر ووروييه، كولليه ديكوتيل، بوديه.
المجلد السادس: وهو الجزء الثالث من الدراسة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر. وتناول الموازين والنقود. وهو من تأليف صامويل برنارد.
المجلد السابع: وجاء تحت عنوان: الموسيقى والغناء عند قدماء المصريين. من
إعداد علماء جيش الحملة.
المجلد الثامن: الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين للمؤلف غيوتو. من إعداد علماء جيش الحملة.
المجلد التاسع: الآلات الموسيقية المستخدمة عند المصريين المحدثين. من إعداد علماء جيش الحملة.
المجلد العاشر: وهو مجلد خاص بمدينة القاهرة، جاء تحت عنوان: مدينة القاهرة.
وقد تناول ثلاثة دراسات هي:
1-
وصف مدينة القاهرة لجومار.
2-
الخطوط العربية على عمائر القاهرة. لمارسيل
3-
سيرة أحمد بن طولون. لمارسيل.
المجلد الحادي عشر والأخير: وقد خصصه علماء الحملة للوحات والرسم والآثار التي سجلوها أو ألفوها بمصر
خلال إقامتهم بها أثناء فترة الاحتلال وبعدها إلى غاية 1822 تاريخ طباعة هذا الجزء
أول مرة.
2-
الأعمال العلمية التي ألفها الفرنسيون على شكل مذكرات خاصة، كمذكرات
العسكريين والسياسيين الذين جابوا مصر. والتي تحمل بدورها وصفا لمصر ولشعبها
وحضارتها وعادات سكانها وتقاليدهم...
3-
أعمال المعهد العلمي المصري، ونشريات جيش الحملة لا سيما دورية
"العِقد المصري" (La Décade Egyptienne) التي كان يصدرها الجيش الفرنسي
بمصر كل عشرة أيام.
2- إنشاء الهيئات العلمية:
بغية الاستكشاف
العلمي لمصر وتحقيقا للأهداف الاستعمارية الفرنسية بالبلدين، سارعت الإدارة
الفرنسية في كلا الحملتين إلى تأسيس اللجان والهيآت العلمية متمثلة في المجمع
العلمي والجمعية العلمية خلال الفترة الممتدة بين 1798 و 1859.
1-
المجمع العلمي المصري
(المعهد المصري):
وبفعل الرغبة الفرنسية
القوية في اخضاع مصر وإبقائهما تحت السلطة الفرنسية سواء المباشرة منها أو غير
المباشرة - في حالة خروج الفرنسيين منها - وظفت فرنسا عددا معتبرا من العلماء سار
بهم نابليون في حملته على مصر من أجل تغطية الوجه العسكري الحقيقي للحملة بوجه
علمي. ومن أجل إنجاز دراسات عميقة تكون دعامة لترسيخ الاستعمار. ومن ثمة كان أول
مظهر لتبرير مشروع الاحتلال هو تأسيس المجمع العلمي المصري (المعهد العلمي).
تبعا لهذه الأهداف الاستعمارية إذن، تأسس
المعهد المصري بقرار من نابليون بونابرت بصفته رئيس المعهد الوطني الفرنسي بباريس
منذ 1797، في 22 أوت 1798 بعد أن كلف يوم 20 من الشهر المذكور كل من مونج،
وبارتولّي، وكافاريلّي، وجوفرواي وكوستاز، ودي جونات، وأندريوسّي بصياغة القانون الأساسي
المنظم لسير المعهد. قبل أن يصدر أمرية التأسيس في 22 أوت كما ذكرنا والتي جاء في
بنودها مايلي:
1)
سنؤسس بمصر
معهدا للعلوم والفنون وسيكون مقره بالقاهرة.
2)
تتمثل مهام
هذه المؤسسة في الآتي:
_ الاهتمام بتحقيق النهضة في مصر والسهر على ترقيتها.
_ البحث
والدراسة ونشر الأعمال في مجال الطبيعيات والصناعة وكذا تاريخ مصر.
_ يكون بمثابة
هيئة استشارية في القضايا التي تطرح على الحكومة.
3)
سيشمل المعهد
أربعة فروع أساسية.
4)
الفروع
الرئيسية للمعهد هي كالتالي: الرياضيات، الفيزياء، الاقتصاد السياسي، الآداب
والفنون.
كل
فرع من هذه الفروع يتكون من 12 عضوا.
5)
تكون جلسات
المعهد جلسات عامة، وليس للفروع جلسات خاصة.
6)
تنعقد الجلسات
مرتان كل عشرة أيام من الساعة السابعة صباحا وتمتد على مدى ساعتين.
7)
كل الضباط العامون
بالجيش الفرنسي لهم الحق في الدخول إلى كل الجلسات.
هذا،
بينما نجد أن المواد من تسعة إلى عشرين تحدد كيفية تعيين ونوعية وظائف أعضاء
المكتب.
وقد نصت الأمرية على أن يكون مقر المعهد
بقصر حسن كاشف بالقرب من قصر قاسم باي بالقاهرة، واهتم به نابليون فجهزه بتجهيزات
كبيرة جعلته يضاهي متحف اللوفر بباريس. كل ذلك من أجل الوصول إلى اكتشاف مصر واخضاعها طبقا للأهداف الاستعمارية التي سارت
من أجلها الحملة. كما دعت الأمرية أيضا إلى أن يتكون المعهد من أربعة تخصصات كما
ذكرنا ضمت العلماء الآتية أسماؤهم:
1-
فرع الرياضيات: ويضم كلا من: بونابرت، فورييه، كوستاز، نوييه Nouet، كاسنو Quesno، لوبار Le Père، جيرارد، لو روي Le Roy
، أندريوسّيه،
ساي Say ، مونج، مالوس Malus .
2-
فرع الفيزياء: ويضم كلا من: بارتولّي، دولوميوDolomieu ، كونتي Conté
، جوفرواي،
داسكوتيل Descotils ، سافيني Savigny
، ديبوا Dubois ، دي جونات، شامبي Champy ، دوليل Delille.
3- فرع الاقتصاد السياسي: كافاريلي، غلوتييه Gloutier
، سوسي Susy
، سولكووسكي Sulkowski
، طاليان Tallien
، بوسيالغ Boussielgue .
4-
فرع الآداب والفنون: بارسوفال Parseval ، فانتور Venture ، نورّي Norry ، ديتارت Dutertre ، دونون Denon
، ريجال Rigel
، رودوتي Redouté
، ومترجم يوناني.
هذا، وقد عقد أعضاء المعهد المصري أول اجتماعاتهم في اليوم الموالي 23 أوت وانتخبوا السيد مونج رئيسا
للمعهد.
ومن هنا نقول، أنه من الواضح أن نابليون
أراد أن يجعل من المعهد المصري هذا أداة فعالة لنشر أفكار وتاريخ فرنسا وحضارتها
في الضفة الجنوبية للمتوسط، وترجمانا خادما لأهداف فرنسا في الشرق العربي وإحداث
تأثيراتها في الحضارة الشرقية. كيف لا وهو الذي يهدف إلى توظيف العلم في صناعة
واقع حياتي جديد مفروض في مصر. وإلى توظيف العلم في صناعة طبقة مثقفة، أو عاملة،
أو مستفيدة مما في المجمع المصري من آثار مدروسة، ومختارة على مقاس الفرنسيين،
لنشر أفكارهم وحضارتهم، باسم المدنية التي رفعوها كشعار، لتمرير مشروع الفرنسة
والتغريب في مصر. ويعتبر ذلك قمة التأثير الذي أرادته فرنسا، تطبيقا لفكرة نابليون
القائلة بالسيطرة على البحر المتوسط بضفتيه، لجعله بحيرة فرنسية كما كان يسميه. ثم
يخلو له الجو للوصول إلى المحيط الهندي، وإلى الصين، وشرق آسيا، لمحاصرة الوجود
الإنجليزي، والمطامح البرتغالية والإسبانية.
بالنسبة للمعهد المصري شارك في انجازه كبار علماء فرنسا من مختلف التخصصات، منهم الرياضيون والمهندسون والفلكيون والمعماريون والفيزيائيون والكيميائيون وعلماء الطبيعة والجغرافيون والدهانون والموسيقيون وكان أغلبهم من المستشرقين... نذكر منهم : بارتولّيه Berthollet، مونج Monge ، كونتي Conté ، كوستاز Costaz ، دوليل Delile ، ديجينيت Desgenettes ، ديفييه Devilliers ، فورييه Fourier ، جيرار Girard ، جولوا Jollois ، لونكريه Lancret ، جومار Jomard ، أندريوسي Andréossy، بالزاك Balzac ، باليتستBelleteste ، بارتر Bertre ، بوديه boudet ، كريستي Caristie ، كاستاكس Castex ، سيسيل Cécile ، دي شابرول De chabrol، كورابوف Coraboeuf ، دي كورانسيه De corancez ، كوردييه Cordier ، كوتال Coutelle ، دي لابورت De Laporte ، دي كوتيل descotils ، ديبوا إيميه Dubois-Aymé، دوشانوي Duchanoy ، دوترترDutertre ، فافييه Favier ، فاي Faye ، فيف Fève ، جراتيان لوبير Gratien- Lepere ، جيوفروي Geoffroy، جاكوتان Jacotin ، جوبير Jaubert ، لاري Larrey، ليسيسن Lecesne ، لوجنتي Legentil، لنوار Lenoir، لوبير الأكبر Lepèr ainé ، لوبير المهندس المعماري Lepère architecte ، مالو Malus ، مارسيل Marcel ، مارتن Martin، نوري Norry، نويه Nouet، بروتان Protain ، رافينو Raffeneau ، راج Raige ، ريدوتيه Redouté ، روييه Rouyer ، سان جيني Saint-Genis، صامويل برنارد Samuel Bernard ، سافييني Savigny ، فيار Viard، فيوتو Villoteau ، فانسان Vencent.
بعد أن أسس نابليون بونابرت المعهد المصري من أجل الأهداف المذكورة، تم انتخاب كبير الرياضيين (الرياضيات) الفرنسيين آنذاك وهو السيد مونج رئيسا للمعهد، وانتخب السيد فورييه وهو رياضي أيضا كاتبا عاما. واتخذ نابليون من قصر قاسم باي مقرا للمعهد، وهو مكان استراتيجي يبعد عن الأزبكية بحوالي كيلومترين فقط.
ومنذ الجلسات الأولى،
سارع المعهد إلى العمل على إحداث التأثير في الحياة الاجتماعية المصرية وفرنستها،
فأسس لجنة لدراسة المقاييس المستعملة في مصر ومعرفة معادلتها بالقياسات المستعملة
في فرنسا، تمهيدا لتطبيق الأنظمة القياسية الفرنسية بدلا عن تلك المستعملة في مصر،
وهو ما تم فيما بعد. كما أمر بالإقبال على دراسة النحو العربي، واللغة العربية،
واللهجة المصرية، وجعل الدراسة تحت تصرف الفرنسيين لتسهيل عملية تواصلهم مع
المصريين . تسهيلا لتحقيق التأثير الفرنسي في المجتمع المصري، وتمهيدا لدمج المصريين وتذويبهم
في بوتقة الفرنسة والتغريب.
2- الجمعية العلمية المصرية:
لم تكتف إدارة
الاحتلال بالدور الذي لعبه المعهد المصري في التغلغل داخل المجتمع المصري وضرب
خصائصه العربية الإسلامية، واستبدالها بالقوانين الفرنسية وأساليب الحياة الغربية
... فسارع جومار وهو عضو سابق في المجمع العلمي المصري، إلى تأسيس الجمعية العلمية
في 06 ماي 1859.
وحرص على أن تكون مؤسسة ثقافية حكومية، تستطيع فرنسا أن تحقق أهدافها
من خلالها، لاسيما خلال الفترة التي ظهرت فيها وهي أواسط القرن التاسع عشر
الميلادي، حيث كانت مصر تعاني من الأزمات المالية، ومن الضغط الفرنسي والإنجليزي
على الحكومات الخديوية المتعاقبة.
تألّفت
الجمعية العلمية هذه، من خمسين عضوا دائما من العلماء، ومثلهم كحد أقصى من الأعضاء
الشرفيين، واشترطت الإدارة إقامتهم في القاهرة حتى يكونوا قريبين من مقر المعهد
المصري، وقريبين أيضا من مركز القرار في ظل وضع مصري لا تحسد عليه. وأصبحت الجمعية
والمعهد هيئتين استشاريتين لحكومة فرنسا في كل القضايا التي تهم مصر. فأصبحتا، بذلك، مؤسستين فرنسيتين استعماريتين بأتم معنى الكلمة.
وحرصا على إنجاح سياسة فرض الهيمنة
والتبعية الفرنسية على مصر لم يكن جومار هو الشخصية المرموقة الوحيدة، وإنما هناك
أسماء أخرى بارزة ونافذة بالإدارة المصرية كانت تشتغل بهذه الجمعية العلمية نذكر
منهم: كونينغ بك (Kuening Bey) وهو الكاتب العام لمحمد سعيد باشا والي مصر، وأوغست مارييت (Auguste Mariette) المكلف بمصلحة الآثار المصرية، إضافة إلى تيربيرا (Thurbira) وهو عالم اقتصاد وأحد التجار الإنجليز بالإسكندرية وكذلك الفرنسي
الدكتور شاب (Dr. Shepp) الذي كان في منصب المندوب الصحي بالإسكندرية.
مثلها مثل المعهد المصري، كانت الجمعية
تخدم أغراض نابليون وجيش الشرق من أجل إحداث التأثير الفرنسي المنشود في مصر. وكان
"الغرض الرئيسي للجمعية هو درس جميع ما يتعلق بالقطر المصري وما جاوره من
البلاد الأخرى، أدبيا وفنيا وعلميا. وتتكون من خمسين عضوا يقيمون في القطر المصري،
وينتخبون بأغلبية أصوات الأعضاء الموجودين بهيئة اقتراع سري، ويوجد بها أيضا أعضاء
شرف عددهم غير محدود".
وخدمة لأهدافها الاستعمارية هذه، وعلى رأسها تطبيق مشروع السلب الثقافي بمصر والعمل بكل الوسائل على إبراز الطابع المسيحي لها، عملت الجمعية على عقد الندوات العلمية والأيام الدراسية، وتنشيط المحاضرات من قبل متخصصين مصريين وأوربيين من كل من له اهتمام بتاريخ مصر عبر التاريخ على مختلف تخصصاته وميادينه. ولضمان التأثير المرتقب تم إقرار طبع الأعمال أيضا على شرط أن يتم طبعها بالفرنسية أيضا، حتى ولو أن تقديم المحاضرات لم يكن يشترط فيه اللغة، على شرط أن تكون اللغة الرسمية هي اللغة الفرنسية. بينما كانت المحاضرات تقدم بأي لغة كانت في محاولة لتسهيل جمع تاريخ مصر وتحقيق أهداف الجمعية. وقد طبعت الجمعية كل أعمالها والمحاضرات التي قدمت في إطار نشاطاتها وذلك "في مجموعة سنوية في مجلدين يحتويان على المحاضرات التي تلقى أمام الجمعية، وتقرر المباحثات ...إلخ، وتطبع أيضا رسائل في المواضيع الهامة". وقد وصل عدد مطبوعات الجمعية إلى ما يزيد عن 22 ألف.
وخدمة للتأثيرات الاستعمارية التي
نتكلم عنها، داومت الجمعية، وكذا متحف مصر وتحت إشراف الفرنسيين، على نشاطات دورية
جاب فيها علماء الآثار كل مواطن الآثار القديمة بمصر، بحثا عن كل قطعة أثرية
مسيحية أو معلم تاريخي يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، في محاولة منهم للبرهنة على
أن مصر مسيحية وأن فرنسا المسيحية أولى بها من العثمانيين، أو المماليك المسلمين.
حتى ولو كان الفرنسيون يعلمون مسبقا من خلال دراساتهم الاجتماعية التي تطرق إليها
العسكريون وعلماء الحملة تجذّر الدين الإسلامي في نفوس المصريين. ومن بين تلك
الأعمال الاستعمارية، نذكر تلك الأبحاث التي امتدت على ما يقارب ثلاثة أشهر خلال
الفترة الممتدة بين 22 ديسمبر 1910 و 07 مارس 1911 من أجل دراسة الآثار المنتشرة على
منطقة النوبة وعلى مقاطعة الشرقية. ويقول الفرنسي ماسبيرو بعد أن تم تنصيبه في
منصب المفتش العام للحكومة المصرية وهو مظهر قوي من مظاهر التأثير (شخصية فرنسية
في منصب مسؤولية مصري) والذي كان يتابع تلك الأشغال المذكورة آنفا:" أنا ملزم
بتغيير البرنامج المسطر... منذ وصولي إلى هنا في 04 جانفي 1911 راقبت الأعمال المنجزة وكذا
الآثار الموجودة في تيبس وذلك خلال الفترة الأولى الموالية لوصولي 04 إلى 20 جانفي...".
من خلال ما ذكرنا يتضح جليا أن المسؤولين
الإداريين الفرنسيين كانوا يولون أهمية كبيرة إلى العمل في مجال الآثار، وذلك من
خلال بداية ماسبيرو العمل يوم وصوله في 04 جانفي. ويذكر المفتش العام
للحكومة أنه بعد مراقبته لتلك الأعمال والآثار المصرية انتقل إلى دراسة مناطق
النيل وآثارها وقصر إبراهيم وأمادة والدر وسيباو ومحارقة والدكّا، ودندور،
وقلابشي، وبيت الوالي، وتافة، وقرتاسي، وديبو.... إلى غاية الوصول إلى أسيوط.
وبهذه المناسبة صرح المفتش العام للحكومة الفرنسية: لقد تابعت الأعمال التي قام
بها بارسانتي (Barsenti) بين 1907 و 1910 وهي أعمال متقنة". فرأى أن النيل قد تمت دراسته دراسة وافية وشاملة للآثار المتواجدة بالمنطقة سواء
على مستوى كوم أمبو، وسيلسيليا، وإدفو، والكاب، وإسنا.
وفي إطار النشاط المسيحي من أجل إظهار
الطابع المسيحي أو ما نسميه هنا التأثير الفرنسي التغريبي في مصر في مجال الآثار
نذكر أيضا أن بارسانتي قد رمّم أعمدة وأسوار الكنيسة الرومانية القديمة المنهارة
وأقام سورا جديدا من أجل حفظ المدينة الرومانية القديمة ليكون بديلا عن ذلك السور
الذي تم بناؤه من طرف مورقان المفتش السابق والمكلف بمتابعة الأعمال الأثرية
بمنطقة السباخين. ولا يفسر هذا العمل الأثري إلا أنه إحياء لأمجاد الرومنة والمسيحية في مصر، وهو من
بين أهم الآثار الكبرى التي كانت فرنسا تريدها في مصر.
وحفاظا على طابع المسيحية في مصر دعا
ماسبيرو إلى ضرورة الحفاظ على الآثار المسحية الرومانية وكذلك اليونانية المتواجدة
بمنطقة القرنق، وقامت الجمعية المصرية بجهود كبيرة في ذلك من خلال لجنة التفتيش
التي يقودها ماسبيرو دوما، فتم بناء غرف جديدة بقاعة الأعمدة الكبرى بالجهة
الجنوبية الشرقية التي كانت الأكثر عرضة للحت والتأثيرات البشرية وقررت ترميمها
باستعمال الآجر والإسمنت خاصة الأبواب التي لابد أن تعود إلى طبيعتها القوية
الأولى. على عكس الآثار الإسلامية التي لم تدعُ أي جهة فرنسية لحمايتها. وهو تأثير مسيحي فرنسي
استعماري واضح أيضا ولا يحتاج منا إلى طول نقاش.
وفي إطار حماية الفرنسيين للآثار المسيحية
بمصر، ومحاولة التأثير في المجتمع تم توظيف السياحة أمامه من خلال فتح أبواب المتاحف
وزيارة المناطق الأثرية هذه وإقناعه بأن آثار مصر هي آثار مسيحية فرعونية بعيدة عن
الإسلام والمسلمين. كما اهتم باراز (Baraize) أيضا
بالآثار الموجودة على الضفة الشمالية لنهر النيل وعمل على تعويض الصخور المتحطمة
من تلك الآثار، خاصة منها صخور دير المدينة، فجيء ببديل عنها من المعبد الموجود
هناك. قبل أن يتحول باراز إلى مواصلة نشاطه بمنطقة قرنة. كما تناول بالدراسة تمثال رمسيس الثاني، ورمّم تمثال الفرعون رمسيس الأول بإدخال
تقنية جديدة آنذاك وهي تقنية صقل الحجارة واستعمال مادة الكلس أيضا في عمليات
الترميم. وهي مواد لم تكن مستعملة بالطريقة العلمية قبل ذلك. كما تم التفكير رسميا
في توفير الماء بالمنطقة لاستغلاله في خدمة المشاريع الأثرية وبنائها وتجديد ما
كان موجودا منها منذ العهد الروماني. وتمت تلك العمليات ومثيلاتها عديدة دوما بقيادة باراز في مناطق دكّة والقلبشية،
وكذلك فعل مع موقع ديار البحري من إيبسامبول إلى أبيدوس. وفي محاولة للتأثير ثمّن
باراز اكتشافاته بالمزيد حين اكتشف بعض الآبار التي كان يستعملها الرومان وحتى
اليونان بمصر وهي بئر نيلومتر أو مقياس النيل.
لم يكتف الفرنسيون بهذا الجهد التغريبي الذي يعمل بوضوح على دفع المصريين إلى اعتناق الحضارة
الغربية على النمط الفرنسي، وإلى الترحيب بالفرنسيين بكونهم مسيحيين وبكونهم
يحاولون إحياء أمجاد الرومان. وإنما درجوا على نشر الكتب التي أُلّفت في هذا
المجال، ونذكر كتاب شامبيليون حول المتحف الملكي المصري الذي أرّخ لكل الأثريات
المصرية سواء منها الرومانية أو الإسلامية،وكذلك كتاب هنري أومون حول المهام الأثرية الفرنسية بالشرق والذي جاء في 1234 صفحة
في جزأين اثنين، جاء فيها على أهم المواقع الأثرية بمصر على مختلف الحضارت لا
يسعنا هنا التفصيل فيها. هذا إضافة إلى المجاميع التي كان يصدرها
الأثريون الفرنسيون حول الآثار التي توصلوا إلى اكتشافها بمصر، وهي ثرية وغنية جدا
في هذا الجانب.
وواضح أن
الفرنسيين توجهوا إلى التأليف أيضا، نظرا لأهميته في التأثير على المصريين من أجل
استقطاب خصائص الحضارة الفرنسية، وبالتالي تقبل التأثير الفرنسي، وكانت أهم
المؤلفات كالتالي:
Elliot
Smith, Les Royal Mummies
Moret, Cercueiles de la dynastie Bubastite
Goutier, Cercueiles saites
Gean Maspero,
Catalogue général.
كما تناولت الدراسات الفرنسية آثار الحضارة المصرية على عهد الأسر التي
حكمت مصر قديما، أو ما يعرف بالحضارة الفرعونية على مختلف الأسر التي مرت بها. وقد
كان كتاب بلاكاس دولب أهم ما كتب في تلك الآثار الحضارية المصرية.
وبعد أن جمع
الفرنسيون المؤلفات المصرية المخطوطة والمطبوعة عن تاريخ مصر منذ أقدم حقبها
التاريخية رمموا الآثار المسيحية. وعملوا على توجيه الكتابات الجديدة التي تعمل
على إظهار مصر في طابع مسيحي بحت، كما أسسوا المكتبة المصرية على هذه الأفكار
المسيحية وجمعوا لها حوالي 1500 كتاب قال عنها ماسبيرو أنها صارت ملكا للمكتبة
المصرية سواء عن طريق الشراء أو الاهداء أو التبادل.
ونحن نضيف أنه من الواضح أيضا أن الكتب التي كان يؤلفها الفرنسيون آنذاك كانت هي
الأخرى تدخل إلى رصيد المكتبة المصرية. لا لشيء إلا لتحقيق التأثير الفرنسي فيها
تأثيرا فرنسيا غربيا مسيحيا.
2-
الاهتمام
بدراسة الآثار المصرية واستغلالها في خدمة الاستعمار:
1- إنشاء المتحف
المصري والمكتبة العامة:
ربما
يمكننا القول أن الحضارة المصرية هي أهم حضارة في تاريخ الإنسانية من حيث الآثار
التي جمعت من اليوناني والروماني والآشوري والفارسي والعربي والإسلامي والمسيحي.
هذه الثروة الأثرية حاول علماء الحملة الاستثمار فيها، والاقتصار على إظهار
المظاهر المسيحية فيها دون التطرق إلى الآثار الإسلامية.
ومن أجل هذا أنشأ نابليون
بونابرت متحفا للآثار المصرية تابعا للمعهد المصري وفي خدمته. وطلب من كل أعضاء لجنة الاستكشاف بما فيهم الضباط
العسكريين العمل على إثرائه بما استجد لديهم مما يخدم مصر المسيحية، والفرعونية من
دراسات ألّفوها عن الحضارة المصرية أو آثار اكتشفوها. ولذا كان نصب رمسيس الثاني
من أُولى القطع الأثرية التي دخلت المتحف المصري. وكان مونج هو مكتشف هذا النصب
بالمنطقة الأثرية مومفي (Memphis)، كما اكتشف أيضا تابوتين يعودان إلى
الأسرة الفرعونية السادسة عشر بالمنطقة الأثرية ببولاق، وأخرى تحت مدارج مسجد الناصرية.
وبعد نابليون
جاء دور شامبيليون الذي أقنع محمد علي ببناء متحف أثري يحفظ آثار مصر من النهب
الأوربي من القناصلة والسياسيين وكذا من التجار. كل ذلك من أجل إثراء المتحف بنشاط أثري موجّه يقتصر على تاريخ مصر القديم حتى يظهر
للجميع وكأن مصر بعيدة عن الهوية العربية والإسلامية. باعتبار أن تلك الآثار كانت
كلها قبل الفترة الإسلامية كما هو معروف زمنيا.
وبتأثير من
شامبيليون، أسس محمد علي في أوت 1835 المتحف المصري تحت اسم دار الآثار المصرية أو كما كانت تسمى أيضا بدار
العاديات، وهو مصطلح كان يطلق على القطع الأثرية. وكان مقرها بالأزبكية، ووضعها
تحت نظارة (مديرية) المعارف، وكلف موظفيه الذين زودهم بوسائل الحراسة بالتنقيب عن
الآثار المصرية وجمعها. وظل البحث والتنقيب بالتنسيق مع علماء مصر لا سيما
شامبيليون الذي كان مهتما بحضارة مصر القديمة بعد تمكنه من ترجمة الكتابة
الهيروغليفية. وطبعا ليس غريبا أن يكون الاهتمام مقتصرا على حضارة مصر القديمة
للسبب الذي شرحناه سابقا وهو إظهار مصر بطابع غير إسلامي.
كانت
الفترة الممتدة بين 1830 و 1849 بمثابة المرحلة الأولى من التأثير الفرنسي في مجال
الآثار المصرية على الطريقة التي وضحناها، إذ تم خلال هذه السنة الأخيرة تنظيم
مؤسسة الآثار على الوجه الذي يخدم الأهداف الفرنسية. وذلك بتخصيص جزء من القلعة
لحفظ الآثار المصرية التي تم جمعها، والتي كانت إلى ذلك الحين قليلة جدا حيث حفظت
في غرفة واحدة من غرف القلعة. وكلفت نظارة المعارف في السنة الموالية (1850) الأثري الفرنسي أوجست مريت (مريت باشا فيما بعد) الذي دخل مصر موفدا من حكومة بلاده لنفس الغرض وهو دراسة بعض
ما يهم الفرنسيين في نهر النيل، فتحول رغبة منه إلى السهر على الآثار المصرية
وتنظيمها وحفظها بطرق علمية. ونجح كثيرا في مهمته التغريبية بإثراء المتحف بمختلف
الآثار التي تعبر عن حضارة مصر القديمة.
تقدم مشروع
مريت أكثر خاصة بعد مجيء إسماعيل باشا الذي "أمر في الحال بإصلاح مخازن بولاق
وتوسيعها وافتتحها بحفلة رسمية في 05 جمادى الأولى سنة 1280 هـ، 18 أكتوبر 1863 م. وشاركت مصر في معرض باريس للآثار سنة 1867.
بغية تحقيق
تأثيرهم النفسي والاجتماعي في أوساط المصريين من خلال الآثار ازدادت رغبة
الفرنسيين في توسيع مجال الأبحاث الأثرية هناك، فالتحق علماء فرنسيون بمصر وعلى
رأسهم ماسبيرو، فوسعوا دائرة التنقيب وجمعوا الآثار وأسسوا الجمعية الجغرافية المصرية
لتسهيل مهمة الرصد من أجل البحث والتنقيب. وبعد وفاة مريت باشا في جانفي 1881 نقل المتحف المصري إلى الجيزة سنة 1891، ثم نقل سنة 1902 إلى مكانه الحالي قرب النيل.
وإضافة
إلى المتحف المصري أنشأ نابليون بونابرت المكتبة العامة من أجل تحقيق أهداف الحملة
الاستعمارية والعمل على إظهار مصر مرتبطة بالمسيحية وبروما واليونان فعمل نابليون
على استجماع كل ما تعلق بالحضارة المصرية ومنطقة البحر المتوسط الذي كان يسميه
بحيرة فرنسية. واختار لها قاعة كبيرة بجوار قصر قاسم باي موقعا. وجهزها بتجهيزات
هامة في وقتها كعديد الطاولات الكبيرة، وجعل أيام الأسبوع كلها أيام عمل باستثناء
عطلة نهاية الأسبوع، وكلف مجموعة من العمال المكتبيين المتخصصين يسهرون عليها
وزودها بالمطبعة التي كلف بها مونج وبورتليه بالسهر عليها. وسخر لها أكثر من ثلاثين عاملا مهمتهم القيام بالشؤون العلمية للمكتبة، من خلال
جمع كل ما وصلته أيديهم من كتب ومخطوطات ووثائق هامة... وكتابة المذكرات وترجمة
الكتب على مختلف تخصصاتها.
ولما خلف الجنرال مينو نابليون بونابرت في مصر
شدد (مينو) على إثراء المكتبة بجدية أكبر بغية منه في الوصول إلى أمهات الكتب
والمخطوطات المتعلقة بالحضارة المصرية. وكلف فورييه بإعداد الفهرسة وزاد في ساعات
العمل اليومي بالمكتبة من سبع ساعات إلى 15 ساعة. وفي هذا أدلة واضحة على ذلك التأثير الذي كان يعمل الفرنسيون على القيام به في مصر
وعلى رأسه اظهارها بمظهر العالم المسيحي، وإبعادها في المقابل عن خصائصها العربية
والإسلامية. فكانت تلك الأعمال والمؤلفات تمارس مهمة التعتيم على كل ماهو عربي أو
إسلامي في مقابل دعم كل ماهو مسيحي روماني فرعوني أو يوناني.
وبغية احداث ذلك التأثير فرض علماء فرنسا
رتما مرتفعا في طريقة العمل لإبهار المصريين والاستحواذ على عقولهم وقلوبهم تسهيلا
للدمج والانسلاخ والابتعاد عن خصائص حضارتهم العربية الإسلامية. فكان للمكتبة
نشاطا دؤوبا فاجأ علماء مصر، الذين تفاجأوا
أيضا بذلك الكم الهائل من الكتب التي دخلتها ومن تلك الكتب التي ترجمت إلى اللغة
الفرنسية لاسيما من طرف تلاميذ المدرسة المتعددة التقنيات بباريس الذين كان أغلبهم
من أتباع التيار السانسيموني. وهو التيار المعروف بممارسة تأثيراته الفرنسية
الغربية على الحضارة الإسلامية آنذاك، ومعروف بقاعدته الشهيرة التي جاءت على لسان
قائده أونفونتان بأن يكون الغرب فاعلا والشرق مفعولا به. كما اعتمد الفرنسيون هنا
على المسيحيين أيضا من مثل رئيس فرقة المترجمين الشاب السوري الكاثوليكي ذي الأصول
اليونانية إبراهيم الصباغ (ميشال)، وهو حفيد زاهر عمر الزيداني وزير مالية سابق
بمصر، والمبشر السابق بفلسطين. وقد استطاع الإشراف على ترجمة سور القرآن الكريم
واعداد معاجم لمختلف اللغات الشرقية بقواعدها، وجمع المخطوطات من المكتبات المصرية
الخاصة بمختلف اللغات: العربية والتركية والقبطية...
2- ترجمة معاني الكتابة الهيروغليفية:
الكتابة الهيروغليفية هي كتابة المصريين
القدماء الذين سجلوا بها حضارة الإنسان المصري على طول نهر النيل ببلاد الكنانة،
وقد "نشأت نشأة محلية أصيلة واستمدت علاماتها الهيروغليفية من الحيوانات
والنباتات وبعض الأواني والأدوات المستخدمة منذ العصر الأدنى للحضارات النحاسية
الحجرية، مما يدل على أنها نتاج للحضارة المصرية التي نشأت على ضفاف النيل دون
غيرها".
والهيروغليفية كلمة إغريقية مركبة من لفظتين هما: هيروس (Hieros) وتعني نحت، و غليفوس
(Glyphos) وتعني مقدس. أي أن الهيروغليفية هي النحوتات أو النقوش المقدسة. وهي كل تلك النقوش المدونة على النُّصب والعمائر.
ولقد حاول
كثير من علماء عصر النهضة تفكيك الرموز الهيروغليفية لكن بقوا عاجزين أمامها وقد
اعتمدوا في ذلك على المخطوطة الوحيدة التي كانت لديهم بمدينة البندقية الإيطالية
لمؤلفها هورابولون (Hieroglyphica of Horapollon) والتي كانت قد وصلت إيطاليا سنة 1422، وكان هورابولون الإغريقي قد حاول ترجمة نصوص
الهيروغليفية فعجز أمامها.
وحينما
نذكر تفكيك الكتابة الهيروغليفية فإن الفضل في ذلك يعود إلى الأثري الفرنسي جون
فرانسوا شامبيليون (شامبيليون لو جون)، الذي تمكن من فك رموزها بعد ترجمة الكتابة
الموجودة على حجر الرشيد. وذلك بعد "دراسته لموقع أسماء الأعلام وتكرارها في
النصوص الهيروغليفية تمكن من معرفة الأسماء نفسها وتمييزها في النص المصري". وقد ساعده في ذلك معرفته للغات الشرقية ومنها اللغة القبطية، التي هي أيضا لغة
مصرية قديمة. وبذلك كان "هذا الحجر (حجر الرشيد) بمثابة المنفعة الكبرى
لدراسة حروف اللغة الهيروغليفية".
كان اهتمام شامبيليون بالآثار المصرية منذ أن أقام بمصر خصيصا لدراستها بقرار مشترك بين السلطات الفرنسية والمصرية. وكان شامبيليون قد تقدم في ترجمته هذه لاسيما بعد ذهابه إلى إيطاليا واحتكاكه بالعالم الأثري الإيطالي روسيلينّي الذي صار صديقا له. وانتقل معه إلى مصر حيث استطاع شامبيليون بالاشتراك مع روسيليني نشر 320 لوحة أثرية و 12 مجلدا يشرح تلك الألواح، وكانت بداية نشر هذه المجلدات في 1831 بأن يتولى أخ شامبيليون جون جاك شامبيليون المدعو فيجاك، مواصلة نشر أعمال أخيه الذي وافته المنية في 04 مارس 1832. كما تشكلت لجنة رسمية من أجل نشر أعمال شامبيليون ضمت كل من: ساسي، لوترون Le Tronne، شامبيليون فيجاك Champillion Figeac، لينورمون Lenormant، كلاراك Clarac، بيو Biot، آيي Hayet. وقد صدر منها أجزاء خمسة بين 1831 و 1835. كما صدرت خلال الفترة الممتدة بين 1844 و 1879 مذكرات وصفية تعد تكملة لأعمال شامبيليون وروسيليني.
كانت
إذن، ترجمة الكتابة الهيروغليفية مظهرا من مظاهر التأثير الفرنسي في مصر، الذي
أراد من خلاله الفرنسيون بعث رسالة مفادها أن مصر فرعونية لا إسلامية وأن كتابتها
هي الكتابة الهيروغليفية وليست العربية ... إلى غير ذلك من الأعمال ولو كانت تافهة،
حاول علماء الحملة التمسك بها مستهدفين الحضارة العربية والإسلامية في مصر.
كان إذن فك
رموز الهيروغليفية من أهم الأعمال الأثرية التي قام بها الفرنسيون في مصر، وذلك من
خلال فك رموزها الموجودة على حجر الرشيد الذي يعود اكتشافه والتفكير في ترجمته إلى
القرن الثامن عشر من طرف السيد دينشي سكولر جورج زوغا (Danish
scholar Georges Zoega,). قبل أن يلعب دو ساسي دورا كبيرا في
العمل على ترجمته من خلال التنسيق مع الحكومة المصرية، وعلى رأسها محمد علي
لاستقدام شامبيليون. هذا الأخير الذي عكف على ترجمة معاني اللغة الهيروغليفية انطلاقا
من تفكيك بعض الأسماء بعد مقارنتها باللغة اليونانية.
وننقل
هنا الفقرتين الأوليتين من الترجمة كما جاء بها شامبيليون:
"خلال حكم الملك الصغير الذي خلف والده كجلالة الملك صاحب التيجان
العظيم الذي أنشأ مصر ومخلص للآلهة المنتصر على أعدائه والذي أعاد الحياة الكريمة
للناس المشرف على احتفال الثلاثين عام العادل مثل هيفايستوس الأكبر ملك مثل الشمس.
ملك القطرين الشمالي والجنوبي العظيم نجل الإله فيلوباتوريس المعترف به من قبل
هيفايستوس الذي أيدته الشمس بالنصر الصورة الحية لزويس ابن الشمس بطليموس. فليعيش محبوب بتاح.
في السنة التاسعة (أنا) أيتوس ابن أيتوس كاهن الإسكندرية والآلهة سوتيريس وأدولفي
والآلهة أبورجاتي وفيلوباتوريس...

تعليقات
إرسال تعليق