الحملة الفرنسية على مصر واحتلالها
1- مصر من المماليك إلى الحملة الفرنسية:
لمصر تاريخ
ضارب في أعماق التاريخ، فهي شاهدة على كثير من حضارات البشرية منذ عصور ما قبل
التاريخ، فقد شهدت الحضارة الفرعونية، وكانت أرضا لبعض الأنبياء والرسل كيعقوب
وأبنائه عليهم السلام، وموسى عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام... كما تعرضت لكثير
من الحملات الصليبية وخاصة تلك التي كانت تقودها فرنسا باعتبارها قلب المسيحية
وقائدة المذهب الكاثوليكي، فكانت الحملة الصليبية الخامسة سنة 618 هـ الموافق لسنة 1221 م، والتي قادها جان دي برس وانتهت بهزيمة الصليبيين.
كما كانت الحملة الصليبية السابعة أيضا قد انطلقت من فرنسا باتجاه مصر سنة 648 هـ الموافق لسنة 1250 م بقيادة لويس التاسع والتي انتهت إلى أسره شخصيا في
معركة المنصورة، بعد أن فقد جيشه أكثر من ثلاثين ألف قتيل و كثيرا من الأسرى.
أما حكم
المماليك لمصر فيعود إلى سنة 1250 حين تولت شجرة الدّر الحكم في 21 ماي بعد مقتل
توران شاه بن نجم الدين أيوب في فارسكور، فخلفته على عرش مصر. وقد كانت شجرة الدّر
زوجة أبيه. ثم تزوجت من عز الدين أيبك وتنازلت له عن العرش، واستمر الحكم المملوكي على مصر وبلاد الشام إلى غاية حملة السلطان سليم الأول على
المنطقة ودخول الشام تحت الحكم العثماني على إثر معركة مرج دابق في 24 أوت 1516 التي قتل فيها قنصوة الغوري، ثم دخول مصر تحت الحكم العثماني على إثر معركة الريدانية 1517. وانتقلت بذلك المنطقة من سلطة العباسيين إلى سلطة العثمانيين، كما انتقلت الخلافة
الإسلامية رسميا من العباسيين إلى العثمانيين. لكن منطقة مصر وبلاد الشام تركها
السلطان تحت سلطة المماليك الذين يحكمون باسم العثمانيين.
تميزت الفترة
الأولى من حكم المماليك بالعدل والقوة، واتسع مجال حكمهم ليشمل مصر وبلاد الشام
والحجاز واليمن. وسيطروا على طرق التجارة في المنطقة، فأصبحت التجارة الأوربية؛ البريطانية والفرنسية في المحيطات تحت إرادة المماليك.
وربطوا علاقاتهم التجارية مع البندقية، والولايات الإيطالية الأخرى، فسيطروا على
البحر الأحمر وعلى جزء من الحوض الشرقي للبحر المتوسط، إلى أن دب فيهم الضعف مع
بداية القرن السادس عشر، حين انتصر عليهم البرتغاليون في معركة ديو Diu في 03 فيفري 1509 بالمياه الهندية، وتحطم الأسطول البحري المملوكي. وكان ذلك إيذانا ببداية
تراجع المماليك عن قوتهم التي كانوا عليها منذ طردهم الصليبيين وهزمهم المغول في
عين جالوت بفلسطين سنة
نتيجة للضعف الذي ضرب دولة المماليك، وللطموحات التي كانت تسعى الدولة العثمانية إلى تحقيقها، وهي المتربعة على شرق أوربا والمزهوة بفتح القسطنطينية منذ 1453. ونظرا للأطماع الأوربية في المنطقة، دخلت مصر تحت الخلافة العثمانية على إثر انتصار سليم الأول على طومان بك في معركة الريدانية سنة 1517. وبعد أن أعلن العثمانيون عن مصر ولاية عثمانية، واستلموا الخلافة من العباسيين، وبايع حاكم الحجاز الشريف بركات سليم الأول خليفة للمسلمين، وأرسل إليه مفاتيح الحرمين. فضل سليم الأول ترك البلاد تحت حكم المماليك تسهيلا للإدارة وجمع الضرائب.
2- عوامل ضعف
المماليك تحت الحكم العثماني:
واصل
المماليك حكم الولاية العثمانية مصر من 1517 إلى 1798 تاريخ الحملة الفرنسية عليها، وخلال هذه الفترة استعاد
البكوات المماليك نفوذهم إلى درجة جعلتهم يفكرون في الانفصال بمصر عن الدولة
العثمانية، خاصة على عهد علي بك الكبير (1765 - 1773)، الذي قضى على كل خصومه السياسيين من البكوات والموالين للدولة
العثمانية، بداية من عبد الرحمن كتخدا الذي نفاه إلى الحجاز بعد صراع بينهما دام
سنة بأكملها من 01 جويلية 1764 وإلى غاية 19 جوان 1765. كما نفى عددا من البكوات من القاهرة إلى الصعيد
والفيوم والحجاز. قبل أن يصفّي آخر منافس له على عرش مشيخة البلد وهو أهم منصب مع
إمارة الحج في مصر المملوكية، صالح بك في الفاتح من سبتمبر عام 1768.
ويمكن حصر
أسباب ضعف المماليك خلال هذه الفترة في الآتي:
1- الصراعات الداخلية بين البكوات المماليك من أجل الوصول إلى أحد المنصبين وهما مشيخة البلد وإمارة الحج.
2- طموحات البكوات المماليك في الانفصال عن الدولة
العثمانية وما ترتب على ذلك من كشف أجنبي لأسرار الدولة العثمانية وأقاليمها.
وأبرز مثال على ذلك محاولة علي بك الكبير الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية
بإيعاز روسي وإنجليزي، حيث ورغم مشاركة الأسطول المصري إلى جانب الدولة العثمانية
في حربها ضد روسيا، عرض علي بك على روسيا عن طريق قائد أسطولها في البحر المتوسط
الكونت أليكسي آرلو Alexis Arlow اتفاقية حماية الحدود المصرية من
الاعتداءات العثمانية مقابل تجسيد انفصال علي بك بمصر عن الدولة العثمانية. مستغلا
انشغال الدولة العثمانية بهذه الحرب التي انتهت بمعاهدة كوجوك كينارجي سنة 1774 بين روسيا والدولة العثمانية.
3-
تدمير الأسطول المصري في موقعة جشمة في 25، 26 جوان 1770 أثناء مشاركته إلى جانب الدولة العثمانية في حربها ضد
روسيا.
4- ضعف
الدولة العثمانية وعدم مواكبتها التطورات الحاصلة في أوربا وخاصة في ميدان التسليح
والخطط الحربية. وحتى الإصلاحات التي باشرها السلطان سليم الثالث جاءت متأخرة من
جهة، ومن جهة أخرى تحاملت عليه قوى التخلف والرجعية من الجيش الانكشاري والعلماء
الجامدين ورموه بالكفر والتشبه بالكفار.
5-
سيطرة روسيا على الحوض الشرقي للبحر المتوسط خلال ستينيات وسبعينيات القرن الثامن
عشر، إلى جانب الدول الأوربية الكبرى فرنسا وإنجلترا. مما أضعف تجارة المماليك على
الطريق البحري الذي فقدوه أمام السيطرة الروسية في المنطقة.
6-
سيطرة أوربا وخاصة البرتغال على الطريق البري الذي يمر عبر رأس الرجاء الصالح منذ
إقامة البرتغال حصونها التجارية العسكرية في أرغيم Argum مقابل الرأس الأبيض، وحصن سنتياغو
Santtiago قرب الرأس الأخضر وحصن ساو تومي Sao Tomé بخليج غينيا وهي لا تزال تحمل
اسمه حتى اليوم منذ بداية القرن الخامس عشر الميلادي، مرورا بما وصلت إليه
البرتغال فيما بعد بفعل جهود الرحالة والمستكشفين البرتغاليين أمثال دييغو كام Diego Cam في الكونغو سنة 1484، وعن طريق بارثوليمو دياز Bartholemru Diaz واكتشافه لرأس العواصف سنة 1486، وبيدرو دي كوفيلهام Pedro De Covilham
في السنة الموالية وملاحظاته التي قدمها لبني جلدته البرتغاليين حول البحر
الأحمر وعدن والهند ومصر. وقد توجت هذه الكشوفات كلها بمجهودات فاسكو دي غاما Vasco De Jama إلى نهاية القارة وتغيير اسم رأس العواصف باسم الرجاء الصالح
واعتماده طريقا تجاريا مختصرا بين أوربا ومناطق نفوذها في الهند. ومنذ ذلك التاريخ
تحكمت أوربا وخاصة البرتغال في الطريق البحري.
7-
ازدياد تحكم أوربا وخاصة البرتغال في الطرق التجارية التي كان يستعملها المماليك
في البحرين المتوسط والأحمر والمحيط الهندي والهادي أين تتعامل مع زنجبار في شرق
القارة الإفريقية، وذلك منذ رحلة دياز سنة 1486 التي كشف
فيها للبرتغال عن كل من الإمارات العربية القائمة بشرق إفريقيا والمتمثلة في
سفالة، موزمبيق، ممبزة، مالندي، مقديشو، وزنجبار.
8-
الروح الإمبراطورية عند نابليون بونابرت وعزمه على جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة
فرنسية وإحياء أمجاد المسيحية والصليبية.
9- تحطم
الأسطول المملوكي في معركة ديو سنة 1509، واقتصار تفكيرهم الحربي على الفروسية دون إعطاء أي
قيمة للأسلحة النارية والمدفعية التي بدأت أوربا تصنيعها ومن بينها فرنسا. حتى أن
الجند المماليك كانوا فرحين بالحملة الفرنسية على مصر حين سمعوا بها، واعتدّوا
بأنفسهم ورأوا الجنود الفرنسيين كحب الفستق في الكسر والأكل. وتجاوز تفكيرهم
الانتصار إلى كسب الغنائم.
10- الثورات الداخلية في مصر: يمكن أن نسمي هذه الثورات بالثورة العربية ضد المماليك في مصر، لأنها اقتصرت على العنصر العربي في منطقة الحبايبة بولاية الشرقية والقليوبية وقد قادها زعيم عرب الحبايبة سويلم بن حبيب الذي اشتهر بالطغيان والفجور فسيطر على الواجهة البحرية وأَبَقَ على علي بك الكبير شيخ مصر والقاهرة. فقطع الطريق بين القاهرة والبحر المتوسط، مما اضطر علي بك إلى عزله، فاغتنم فرصة ثورة عرب قبيلة الهنادى العربية بولاية البحيرة وانظم إليهم. وقد وجد البكوات الناقمون على علي بك فرصة القضاء عليه فانضموا إلى الثورة. كما انظم إليها أيضا كل من همام بن يوسف قائد عرب الهوارة بالناحية الجنوبية الشرقية لمصر، وعرب الجزيرة والصوالحة. فحققت انتصارات وقتل السنجق الموالي لعلي بك ولكن شدة علي بك وحملتيه اللتين أرسلهما قضتا على الثورة وقطع الجند رأس قائدها سويلم بن حبيب.
بفعل هذا الضعف الذي أصبحت عليه دولة
المماليك مع نهاية القرن الثامن عشر، وقلة الدخل بفعل الأسباب التي ذكرناها جعل
المماليك من أبناء المصريين عبيدا وأجراء على أرضهم وأثقلوهم بالضرائب. وفسد
القضاة، وانتشرت بينهم الرشوة والوساطات، واختل التوازن بين الدولة المملوكية وبين
الدول الأوربية وعلى رأسها فرنسا النابليونية التي وجدت في تلك المرحلة الفرصة
السانحة للانتقام من المماليك ورغبة في جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة فرنسية كما
جاء على لسان نابليون بونابرت.
3- الحملة الفرنسية على مصر:
دبر الفرنسيون ونفذوا مخططهم الاستعماري على مصر في غاية من السرية، وذلك خوفا من الفشل نظرا للحيطة والحذر التي كان المماليك يتميزون بها. قال فورييه: " إن الناس – ولابد – يتذكرون ذلك الانطباع الذي أحدثه في أوربا هذا الخبر المدهش عن قيام حملة فرنسية تتجه إلى الشرق، فلقد أعدّ هذا المشروع الذي أمعن فيه الفرنسيون النظر طويلا وفي صمت، بكثير من العناية والسرية، حتى أن يقظة أعدائنا التي لا تغفو قد خدعت. لقد عرف هؤلاء في وقت واحد تقريبا أنه قد ووفق على هذا المشروع، وأنه قد أعد ونفّذ. ولقد برّرته ضرورة تأمين تجارتنا من المظالم التي لم يكن يكف البكوات (المماليك) عن ممارستها ضدنا. ولقد خامرنا الأمل في تصالح يتم مع البلاط العثماني، عندما نقدم له – نتيجة لحملتنا هذه نفسها – زيادة في الدخل وتعاظما في النفوذ" في إشارة إلى أن فرنسا كانت في نيتها إعانة الدولة العثمانية على وضع حد للمماليك وخروجهم عن سيطرتها.
1_ أسباب الحملة:
تعود الأسباب الكبرى للحملة إلى مايلي:
1-
رغبة بونابرت التوسعية وتنفيذ طموحه المتمثل في جعل البحر الأبيض المتوسط
بحيرة فرنسية.
2- التنافس الأوربي على المنطقة بعد وصول
البرتغاليين إلى سواحل الصومال والبحر الأحمر. وكذا رغبة بريطانيا في السيطرة على
المنطقة.
3_ التخطيط الفرنسي للسيطرة على الطرق التجارية بعد سقوط
القسطنطينية سنة 1453
بسبب تحول التجارة الدولية إلى طريقي تجارة الحرير عبر محور الصين، أواسط آسيا،
آسيا الصغرى، البلقان، أوربا. وإلى الطريق البحري لتجارة التوابل عبر مياه الشرق
الأقصى والخليج العربي والبحر الأحمر. وبالتالي كلا الطريقين يتخذ من موانئ مصر
والشام طريقا حيويا للتجارة.
4_
محاولة فرنسا لتعويض خسارتها مستعمراتها في أمريكا الشمالية بعد هزيمتها في حرب
السبع سنوات أمام الغريمة إنجلترا (1756 _ 1763) مما أفقدها: كندا، اويزيانا،
أوهايو ... فكانت الوجهة إلى البحث عن مستعمرات جديدة، وفي الوقت نفسه العمل على
قطع طريق الهند أمام إنجلترا، فكان احتلال مصر. وقد كان نابليون مقتنعا بأن
السيطرة على طرق التجارة نحو الهند باحتلال مصر هو تمهيد للانقضاض على إنجلترا في
حد ذاتها. ففي رسالة نابليون إلى حكومة الإدارة المؤرخة في 16 أوت 1797 كتب مايلي:
"... لن يفوت الوقت حتى نكتشف أن تدمير بريطانيا بمر باحتلال مصر". وقد
اهتمت الحكومات الفرنسية السابقة لنابليون أيضا بأمر احتلال مصر، حيث حاولت شراءها
من الباب العالي الذي رفض ذلك.
2_ سير الحملة:
مع عودة
نابليون بونابرت من حروبه التوسعية في وسط أوربا من أجل نشر الأفكار الجمهورية
والقضاء على الفكر الملكي والأنظمة الملكية فيها، استقبل في فرنسا استقبال الأبطال
ثم سرعان ما قرر مواصلة الغزو من جديد، وكانت وجهته هذه المرة نحو مصر في سرية
تامة من دون أن يفصح بذلك لقادته ولا لجنوده، وإنما اكتفى بتوضيح أهمية هذه الوجهة
التي قال عنها:" أيها الضباط والجنود، من سنتين تولّيت قيادتكم حين كنتم
مرابطين عند نهر جنوة، وكان الشقاء مخيما عليكم، والحاجة ضاربة أطنابها بين
ظهرانيكم، وقد أنفقتم كل شيء حتى ساعاتكم لابتياع ما تسدّون به رمقكم فوعدتكم
بإزالة شقائكم، وسرت بكم إلى إيطاليا حيث توفر كل شيء... أو لم أنجز وعودي
لكم؟" فطبق الجنود الفضاء بهذه الكلمة "بلى". حينئذ استأنف بونابرت
خطابه قائلا:" ولكن اعلموا أنكم لم تفعلوا حتى الآن شيئا مذكورا للوطن،
والوطن لم يفعل شيئا مذكورا لكم. وها أنا ذا الآن ماض بكم إلى بلاد تأتون فيها
أعمالا تفوق الأعمال التي يتعجب منها المعجبون بكم، وتؤدّون للوطن خدما يحق له أن
يتوقعها من خواضي الغمرات الذين لا يشق لهم غبار. وأعد كل جندي بأنه يستطيع عند
عودته من هذه الحملة أن يشتري ست مائة قصبة مربعة من الأرض. وستستهدفون لسهام
مخاطر جديدة يشاطركم إياها إخوانكم الملاّحون، ومعلوم أنّ أعداءنا لم يشعروا حتى
الآن بثقل وطأة قوتنا البحرية، أجل، إن مآتيهم لم تضارع مآتيكم لأن الأحوال لم
تمكّنهم من ذلك، وإنما بسالة بحّارتنا مضاهية لبسالتهم وغايتهم التي يرمون إليها
هي نيل الغلبة، وسيصيبون هذه الأمنية بالاتحاد معكم.
"
أوقفوهم على ذلك الأمل الذي لا يبارى والذي سخّر لكم النصر أيّان سرتم، ومدّوا لهم
سواعد المساعدة، وكونوا، وأنتم معهم على متون السفائن، شاعرين بالعواطف التي يمتاز
بها الأشخاص الذين لا تسمع ضمائرهم إلا أصوات الواجب عليهم ومحافظتهم على كرامة
وطنهم، ويحق لهم أن يتقاضوا كما تتقاضون أنتم الوطن الاعتراف لكم بالفضل لهم في ما
عانوه من الشدائد في فن الملاحة.
"
تعوّدوا مزاولة أعمال الملاحة على ظهور المراكب، واقذفوا الذعر على أعدائكم برّا
وبحرا، وتصيّروا جنود الرومانيين فقد تمكّنوا من تدويخ قرطاجنة في البحر
والقرطاجانيين وهم في سفنهم في عرض اليمّ. فأجابه الجيش بصوت واحد: " فلتحيا
الجمهورية".
أقلع
الأسطول الفرنسي من ميناء طولون في 19 ماي 1798، ميمّما الشرق دون أن يعلم نابليون
القادة ولا الجند وجهة ومبتغاه كما مرّ بنا. فوصل كريت يوم 25 جوان ، وأراد بذلك
تضليل إنجلترا الساهرة عينها على مصر بقيادة قائد أسطولها الأميرال نلسن.
قبل الوصول إلى الإسكندرية خطب بونابرت في جنوده خطابا
حماسيا وتحذيريا، أعلن لهم فيه عن وجهته التي هي المماليك بمصر الذين وصفهم بأنهم
مساعدي إنجلترا وأعداء فرنسا. كما وضح الكثير من النقاط لأفراد جيشه، تتعلق بخصائص
الدين الإسلامي الذي يعتنقه غالبية سكان مصر، وحذّرهم من النهب والاغتصاب
والاختلاس ومن إرهاق الناس بالضرائب، مشيرا إلى أن عقوبة من يفعل ذلك هي الموت.
وذلك من أجل كسب المصريين إلى صفه ضد المماليك.
خطط نابليون
لدخول مدينة الإسكندرية عن طريق منطقة العجمي، وهي منطقة تفصلها عن مدينة
الإسكندرية مسيرة ساعتين. ورغم استعداد سكانها للقتال إلا أن عامل المباغتة فعل
فعلته، إضافة إلى البارود الذي كان أغلبه غير صالح للاستعمال الحربي بفعل قدمه،
وفي صباح اليوم الموالي دخل الطرفان في قتال غير متكافئ، ولم تدم سوى ساعتين حتى
سيطر جيش نابليون على الإسكندرية دون عناء كبير ليلة الأول إلى الثاني من شهر جويلية 1798، وكتب نابليون إلى حاكم
مصر مراد بك الرسالة التالية:
" إن الحكومة الإجرائية في الجمهورية الفرنسية طلبت
غير مرة من الباب العالي معاقبة بكوات مصر على تجريعهم التجار الفرنسيين كؤوس
المهانة، إلا أن الباب العالي أجاب بأن البكوات المعروفين بمطامعهم وأهوائهم لم
يكونوا يسمعون صوت العدالة، فهو لا يكتفي بالتصريح بأنه لا يرضى بوجه من الوجوه
بأن يهان الفرنسيون أصدقاؤه الكرام القدماء بل يعلن أنه رفع عن أولئك البكوات ظل
حمايته.
" وقد قررت حكومة الجمهورية الفرنسية أن تسيّر جيشا
قويا لتضع حدّا لتعدّي بكوات مصر، كما كانت قد اضطرت غير مرّة في هذا القرن أن
تعامل بهذه المعاملة بكوات تونس والجزائر،
" فأنت يا سيد البكوات مضطر إلى القيام في القاهرة
وليس لك من السلطة والقوة سوى الاسم، وعليه ينبغي لك أن تنظر بطرف الابتهاج إلى
قدومي إلى بلادك،
" ولابد من أن تكون قد عرفت إني لم أقدم لمناوأة
القرآن أو السلطان بشيء من الأشياء، لأنه لا يخفى عليك أن الأمّة الفرنسية هي
حليفة السلطان من دون سواها في أوربا،
" فخفّ إذا لملاقاتي، وشاطرني لعن ذرّية البكوات
الكافرة ".
بعد أن سقطت
مدينة الإسكندرية تحت سيطرة جيش الشرق أذاع بونابرت على سكانها بيانا يبرر لهم فيه
أسباب الحملة التي حصرها في إهانة البكوات المماليك للأمة الفرنسية ويعرقلون
نشاطها التجاري. ويعيثون في أرض مصر فسادا وهم عبيد من شرق أوربا في محاولة
لاستثارة المشاعر المصرية وتجييشها ضد المماليك الذين أظهرهم في مظهر الغرباء. كما
أمّن المصريين على دينهم وحقوقهم التي وعد باسترجاعها لهم، ووعد بأنه وجنده
يحترمون الدين الإسلامي، ودعا العلماء إلى القيام بمهمة التوعية هذه في الأوساط
المصرية. ووعد المصريين بقوله:"فهنيئا للذين ينضمّون إلينا، فيصيبوا الغبطة
في معيشتهم ورفعة المنزلة في دنياهم وسعدا لمن يلازمون خطة الحياد فيكون لهم وقت
كاف يقفون فيه على حقيقة حالنا وينحازون إلينا. ولكن الويل ثم الويل للذين
يتشيّعون للمماليك ويقاتلوننا، فلا يبقى لهم من مطمع في الحياة بل ينتهون إلى أسوأ
مصير".
عيّن نابليون
بونابرت الجنرال كليبر على رأس قيادة الجيش في الإسكندرية وسار على رأس فيالقه
تجاه مدينة دمنهور وهنا ألحق بالمماليك هزائم فاصلة خاصة في موقعة الرحمانية يوم
21 جويلية، والتي قضي فيها على جزء كبير من الأسطول المملوكي وقضى على قوتهم
وأركان دولتهم، خاصة باستعمال سلاح المدفعية.
3_ معركة الأهرامات ( معركة أمبابة) 22 جويلية 1798:
قبل بداية معركة مدينة القاهرة كان نابليون بونابرت قد
وصل إليها في الثاني والعشرين من شهر جويلية، وأذاع البيان الآتي:
" يا شعب القاهرة، يسرّني تصرّفكم، فقد أصبتم في
امتناعكم عن التمرّس بنا، قدمت لاستئصال شأفة المماليك وصيانة التجارة وأهل البلاد
الوطنيين، فليسكن جأش الملهوفين، وليرجع إلى منازلهم هاجِروها، ولتقم الصلوات
اليوم كمألوف العادة، وليثابر عليها دائما. لا يدخل عليكم الخوف من إصابة الضرّ
لعيالكم وبيوتكم ومقتنياتكم ولا سيما دين النبي الذي أحبّه. وحيث كانت الحال تقتضي
الإسراع في انتقاء أشخاص تفوض إليهم إدانة الشحنة لئلا تتكدّر حياض السكينة فسيعقد
مجلس مؤلّف من سبعة أشخاص يجتمعون في جامع قير وسيكون منهم اثنان مقيّدين دائما
بخدمة قائد الموقع، وسيهتّم أربعة منهم بالمحافظة على الراّحة العامّة ومراقبة
أعمال الشحنة".
بعد إذاعة البيان، أمر نابليون جنوده بمحاصرة المنطقة
وقطع الطريق أمام الجيش المملوكي هناك بقيادة مراد بك الذي وجد نفسه معزولا عن
المدد الطبيعي بمصر العليا، مما جعله يقرّر مهاجمة الفرنسيين المتموقعين استعدادا
لهذه الخطة الحربية. وحين اقتراب الجيش المملوكي من الفرنسيين أمر نابليون بإطلاق
الرصاص ممّا أدى إلى سقوط ضحايا كثر، وانتهت بنصر فرنسي. وقد علّق نابليون على كل
ذلك بما يلي: "... فاغتنمت الفرصة وأمرت فصيلة الجنرال بون المرابطة على
النيل تهجم على المعاقل، وأوعزت إلى الجنرال فيال قائد فصيلة الجنرال مينو بأن
يتوسّط بين الفيلق الذي هجم عليه والاستحكامات فينتهي إلى ثلاث غايات:
1- منع الجنود المصرية عن العودة إليها.
2- قطع خط الرجوع على الجنود النازلين فيها.
3- الهجوم عند مسيس الحاجة على تلك المعاقل من
الجهة اليسرى.
بهذه الخطة، وقع جيش مراد بك في كمين القادة
الفرنسيين، نابليون وجنوده فيال وبون، ورومبون، وقد أحدثت الفارق الأسلحة النارية
التي كان الجيش الفرنسي يمتلكها على عكس المماليك الذين كانوا متمسكين بالفروسية
وشيء من المدفعية. وقال نابليون:" وقد تيسّر لجنودنا أن يقفوا ويقابلوا
الأعداء من جميع الجهات والحراب في رؤوس بنادقهم ويصبّوا عليهم مطرا من الرصاص.
وكانت جثث القتلى تغشى ساحة الهيجاء، وتمكّن رجالنا من الاستيلاء على
المعاقل". وفقد المماليك في هذه المعركة حوالي ألفي رجل من خيرة الجند
والضباط، إضافة إلى مقتل وجرح الكثير من البكوات وعلى رأسهم مراد بك الذي جرح في
خده. بينما كانت خسائر جيش نابليون، ثلاثين قتيلا ومائة وعشرين جريحا على رواية
نابليون. وتمكن جيش الشرق من دخول القاهرة بتاريخ 24 جويلية 1798.
بعد سقوط القاهرة تتبع نابليون جيش المماليك
وبكواته، فهاجم الأسطول الفرنسي مدن الرشيد ودمنهور بعد أن طلبوا قنصلهم، وبفعل
اختلاف الأسلحة استسلم سكان المناطق المذكورة. يقول الجبرتي:" فلما كان يوم
الأربعاء العشرون من الشهر المذكور (محرم) وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد
ودمنهور، بأن في يوم الاثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيين كثيرة فأرسوا
في البحر وأرسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض أهل البلد فلما نزلوا إليهم عوقوهم
عندهم فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب إلى جهة العجمي وطلعوا إلى البر ومعهم آلات
الحرب والعساكر فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد
فعندها خرج أهل الثغر وما انظم إليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم
يستطيعوا مدافعتهم ولا أمكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم وانهزم الكاشف ومن معه
من العربان ورجع أهل الثغر إلى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الإفرنج البلد
وانبث فيها الكثير من ذلك العدد. كل ذلك وأهل البلد لهم بالرمي يدافعون عن أنفسهم
وأهليهم يقاتلون ويمانعون فلما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال وليس ثم
عندهم للقتال استعداد لخلو الأبراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبيته
طلب أهل الثغر الأمان فآمنوهم ورفعوا عنهم القتال ومن حصونهم أنزلوهم ونادى
الفرنسيس بالأمان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه
فألزمهم بجمع السلاح وإحضاره إليه وأن يضعوا الجوكار في صدورهم فوق ملابسهم".
وصف أبو راس
الناصري هذه الحملة فقال:" ... ودخلوا مصر مع طاغيتهم بونابرت أول ربيع
النبوي من السنة المذكورة (1213 هـ)، فقتلوا من وجدوا بها من الغز، واستباحوا
ديارهم وأمنوا من المدينة كل بنا يتوقع منه سوء، وقتلوا كل من توجهت عليه الضنة في
شأن الغز... وفر الباشا مراد وأهل دولته إلى أقاصي الصعيد وتركوا حريمهم في أيدي
الكفرة وقتلوا كل من أثار فتنة أو توهموا فيه استنكافا... ودخلوا جامعها الأعظم
فأهين أشد الإهانة وشتتوا خزائن الكتب التي به وداسوها بالأرجل وحوافر الخيل ، إنا
لله وإنا إليه راجعون... وتمكن عدو الله من مصر وبنى حوله قلاعا كثيرة لتحصينها
وبعث جيشا إلى جهة الصالحية ففتحوا تلك القرى على كثرتها وتخطّوا إلى العريش، إلى
خان يونس... وموهوا بالعدل مكيدة حتى يحبهم الناس".
4_ معركة أبي قير البحرية:
في إطار الخلاف الفرنسي الإنجليزي حول غزو
الفرنسيين لمصر، ركبت عشرة مراكب إنجليزية البحر بحثا عن وجهة الأسطول الفرنسي، ووصلت مصر في الثامن من محرم 1213هـ، والتقوا حاكم الإسكندرية السيد محمد
كريم مع أعيان المدينة، موضحين لمستقبليهم أن مهمة المراكب الإنجليزية هذه هي
حماية مصر من حملة فرنسية محتملة، وأن المماليك لا قبل لهم بمواجهة الأسطول الفرنسي.
وطلبوا المكوث بسواحل المدينة لحمايتها مع شراء الماء والزاد بأثمانها من
المصريين. لكن رد السلطات المملوكية كان الرفض المطلق بحجة أن البلاد المصرية هي
جزء من الخلافة ولن تكون لا فرنسية ولا إنجليزية. مبشرين بأن مصير الجيوش الغازية
فرنسية كانت أو إفرنجية سيكون مصيرها الموت تحت دوس حوافر الخيول. لكن الإنجليز تعقّبوا حركات جيش نابليون الذي كان قد سار في متابعة البكوات
المماليك وتمكن من هزم قوات إبراهيم بك، وفي هذه الأثناء أنبأ كليبر قائده نابليون
أن الأسطول الإنجليزي بقيادة اللورد نلسن قد ألحق بالأسطول الفرنسي خسائر جمة في
العتاد والأرواح. ووصفها الجبرتي يقول:" وفيه سمع ونقل عن بعض الفرنسييس إنه
وقع الحرب (كذا) بين الفرنساوية والإنكليزية، وكانت الهزيمة على الفرنساوية وقتل
بينهم مقتلة كبيرة".
إن الهدف من الحملة الفرنسية على مصر لا يمكن
أن يتوقف على هدف بعينه وإنما هو للقضاء على وضع قائم واستبداله بآخر من صنع
الفرنسيين. يقول فورييه:" ... إن ذلك الذي قاد هذه الحملة ( يقصد نابليون
بونابرت ) لم يقصر أغراضه فقط على عقاب الذين أعاقوا تجارتنا، بل إنه أعطى لمشروع
هذا الغزو سموا وعظمة جديدين. كما طبعه بطابع عبقريته الخاصة. لقد قدر منذ البداية
ما سيكون لهذا الحدث بالضرورة من سطوة على علاقات أوربا مع الشرق ومع أواسط
إفريقيا، وعلى الملاحة في البحر المتوسط، بل وكذلك على أقدار آسيا. ولقد اتخذت
الحملة لنفسها هدفا، هو تأديب المماليك والحد من طغيانهم، والتوسع في مشروعات الري
والزراعة، وأن تحقق اتصالا دائما بين البحر الأبيض والخليج العربي (البحر الأحمر)،
وأن تقيم مؤسسات تجارية وأن تقدم إلى الشرق المثال النافع الذي للصناعة الأوربية،
وأخيرا أن تجعل ظروف وحياة السكان أحسن حالا، وأن تمدهم بكل المزايا التي أنتجتها
حضارة متطورة".
إن المتتبع لتاريخ دولة المماليك منذ قيامها
سنة 1250 م يلاحظ جليا كيف كانت دولة بخصائص
إسلامية على ما فيها من تنافس مع الأيوبيين. فقد أوقفت المد الصليبي وطردت المغول،
و ازدهرت فيها الثقافة... لكن مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر بصفة خاصة
تنازع بكوات المماليك وانتشرت فيهم عوامل الضعف التي ذكرناها فحق عليهم القول،
ووقعوا فريسة سهلة للاحتلال وصدق أبو راس الناصري حين وصفهم في فوره قائلا:
مالت ملوكنا لحضيض راحتـهم * وأكلونا كأكل
الداجن العلــس

تعليقات
إرسال تعليق