القائمة الرئيسية

الصفحات

تطور الموسيقى العربية الشرقية

 

تطور الموسيقى العربية الشرقية







     الشرق من الناحية الجغرافية لا يحمل نفس معنى الشرق من الناحية الفنية. فالأول يشمل مجموعة من الدول من قارة آسيا ويمتد إلى شمال قارة إفريقيا ، ويضم بلاد الفرس والأتراك والأرمن وأغلبية الدول العربية، ويدعى بالشرق الأوسط ويمتد إلى إيران. وهناك شرق جنوبي وشرق أدنى وآخر أقصى إلى غير ذلك النحو. وهذه المناطق كلها تحمل - مجتمعة - ثقافات وأجناسا مختلفة وحضارات لا تتشابه أبدا، كما تحمل لغات عديدة. لكن كلمة الشرق في المجال الموسيقي تحمل معنى الدول التي تشترك في استعمالها لنفس السلالم الموسيقية التي تتسم باستخدام ثلاثة أرباع المسافات. وأول ما ظهرت وتطورت في بلاد الفرس، حيث لا تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا. ولا تزال تستعمل أجزاؤها وتفاصيلها وحتى أسماء مقاماتها بالرغم من تطور هذه الدول وامتزاجها بحضارات أوروبية مختلفة.

    الملاحظ أن أسماء المقامات المستعملة إلى يومنا هذا في دول الشرق الأوسط كله مستوحاة من السلم الفارسي، وأن كثيرا من الأمم  تستعمل أجزاء وتفاصيل الموسيقى ربما لأمرين اثنين: أولهما تجاور هذه البلدان بالبلدان العربية حدوديا كما هي الحال بالنسبة لبعض بلدان إفريقيا ، وربما لانتماء الدول العربية إلى الدولة العثمانية في فترة من التاريخ و التي أثرت عليها كثيرا، حيث يعتبر هذا الأمر إيجابيا أو بما يدعى باحتكاك الثقافات التي تنتج لنا دائما الجديد.

    من هنا يمكن أن نقول إن كلمة الموسيقى الشرقية هي الأصح والأوسع من ناحية المعنى لأنها وجدت وتطورت في بلاد الفرس في الشرق الأوسط ، ولأن هذا الشرق يضم جغرافيا الدول التي تؤمن بهذا الطرح الموسيقي. وحين نصف هذه الموسيقى بالعربية فذلك أيضا حق مشروع يدل عن انتماءاتنا الشرقية وعن عروبتنا التي تميزت بلون خاص ونكهة تختلف في كثير من الجزئيات عن الأتراك وعن الفرس في طريقة العزف وفي الإضافات التي ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في تطور القوالب الموسيقية الآلية والغنائية وحتى في مجال الإبداع الثقافي العام. ولذلك حين ننعت الموسيقى بالعربية فإننا نقصد الدول العربية وما جاورها من بلدان تحمل نفس المواصفات كاللغة والدين والتاريخ المشترك بينها. وحين نسمي الموسيقى بالشرقية فلذلك معنى أوسع يشمل الأصل في الابتكار والتدوين ويشمل أيضا كل المناطق التي توجد في الشرق الأوسط وأهم التطورات التي لحقت بها سواء في بلاد العرب أو في باقي دول الشرق الأوسط.

    كما يجدر بنا في هذا الباب طرح أهم الأسباب التاريخية التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تطور الحركة الإبداعية في مجال ظهور نهضة في ميدان الموسيقى خاصة في مصر وسوريا ولبنان والعراق. ولعل من أهمها تطور الحركة الفكرية الإبداعية في الأدب والشعر وفي مختلف مجالات الحياة  العامة، والتي خلقت جوا وتفاعلا كبيرين لدى الشعراء والملحنين في ظهور قوالب موسيقية غنائية وآلية في مصر من جهة، وبين كل طبقات المجتمع العربي من جهة ثانية. ومن أهم الأسماء نذكر على سبيل المثال سامي البارودي، أحمد شوقي وأحمد رامي وطه حسين ومحمد مهدي الجواهري ومعروف الرّصافي وغيرهم. هذه الحركية المهمة في القرن التاسع عشر كانت نتيجة لكثير من العوامل من أهمها الركود التام في ظل سيطرة الدولة العثمانية المباشر والاسمي للدول العربية لفترات تاريخية طويلة ثم الاصطدام العنيف بالغرب في بداية القرن التاسع عشر ، نشأت عنه ثورات عسكرية ومقاومات شرسة دامت إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى نتج عنها استعمار لأغلبية الدول العربية. وبدأ العرب يفكرون ليس في الثورة والحركات التحررية فحسب ، بل وحتى في طرح مشكلات الخمود الفكري والتأسيس له بالمحافظة على الشخصية العربية من جهة ، وبالتفاعلات التي حدثت من جراء الاستعمار ، ونقصد الاحتكاك الثقافي الناتج عن تمازج الثقافات التركية والغربية مع العربية الإسلامية من جهة ثانية .     

    الأمر الأكيد أن ما أوردناه سمح للفنان الموسيقي بالاحتكاك بالقوالب الموسيقية التركية والغربية في أشكالها العامة، وسمح للشاعر الاستفادة من ذلك أيضا خاصة في مجال الشعر المسرحي ، ونذكر على سبيل المثال أحمد شوقي وتأليفه لكثير من المسرحيات الغنائية ، حيث اعتبرت من الروائع الأدبية والتي سرد من خلالها التاريخ العربي وما جاء في مسرحية (مجنون ليلي) التي قصت لنا شيئا من تاريخ  بني أمية ، ثم لحن محمد عبد الوهاب أجزاء منها مثل (جبل التوباد*). كذلك استنبط البعض من الملحنين من خلالها قوالب موسيقية أخرى كالاستعراض الغنائي والمونولوج والديالوج والأوبرا والأوبيرات(revue musicale – monologue- dialogue-opera- operette).

    لا ننسى أن هذا الاحتكاك العام في مجمله –على غرار ما ذكرنا – جاء بالجديد. وهو تمازج الفكر الغربي بالفكر العربي من فن وموسيقى وشعر وسينما وما إلى ذلك بما فيها أساليب الحياة المختلفة ، كما جعل من الفنان والكاتب والمفكر والإنسان العربي عموما متفاعلا مع جزئياتها وآخذا بها جميعا، ثم استغلالها استغلالا جيدا دون فقدان الهوية العربية. وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإنه من نتائج ذلك التمازج نشأة الكثير من الإحداثيات التي من شأنها أن عملت على تطور الحياة الثقافية في جميع مظاهرها وكانت سببا مباشرا في ظهور ما يلي :

الإذاعة المسموعة: والتي ساعدت على بث الأخبار العامة والإبداعات في كل أشكالها والحفاظ عليها   من الضياع وضمان وصولها للأجيال القادمة إذ نحن نستمتع و ندرس ثم نستفيد منها في زمننا الحاضر.

السينما : ساعدت هي الأخرى في إنتاج غزير للأفلام والأفلام الغنائية الاستعراضية وإمكانية مشاهدتها عبر العالم من جهة ، وأرشفتها للتاريخ من جهة ثانية، وتنافس الملحنين والشعراء في ابتكار واقتباس القوالب الموسيقية وكتابة المسرح الغنائي وإدراج كل ذلك عبر مضامين تخدم الفن العربي على العموم.

الاسطوانة الشمعية: والتي ساهمت بدورها في نشر وتوزيع الإبداع الموسيقي والمحافظة عليه من التلف.

الطباعة:وهي من أهم مرافق الحياة الفكرية والثقافية، حيث يتم من خلالها نشر وتوزيع الإبداعات المكتوبة والأغاني وفي مجال الأدب والشعر والفكر في كل فروعه، والفن ككتب الموسيقى النظرية وأرشفتها.

    وعلى غرار كل ما ذكرنا تغيرت الحياة رأسا على عقب خاصة في مصر ولبنان وبلدان عربية أخرى كسوريا والعراق بعد ذلك. ساهمت كلها في نشر الثقافة على نطاق واسع في كل من العالمين العربي والغربي وتطوير أشكال الحياة وكل مساراتها، والفن في جميع ميادينه.

    ونحن في الجزائر نؤمن بجزئيات الموسيقى الشرقية العربية ، لأن الجزائر بلد عربي أو أمازيغي عربه الإسلام وكلاهما صحيح، فنحن نتكلم لغة الضاد وندين بالإسلام ، ونحمل نفس التاريخ الذي مرت به الأمة العربية. ومن حقنا أن نكون امتدادا للحضارة العربية عموما، دون الاستغناء طبعا عن الموروث الحضاري الذي يزخر به تراثنا العريق، والمضي قدما نحو الإيمان بأن الثقافات تتمازج وتتفاعل فيما بينها وتعمل على تطور الإنسان على وجه الأرض.

     تطور الزمن وأصبحت كل موسيقى العالم موروثا إنسانيا ملكا لكل البشرية ، يمكن لأي كان قد اقتنع بجزئيات فن معين من الشرق والغرب أن ينهل منه ويزود إبداعاته بزخرفات من كل أنحاء العالم، مثل ما فعل سيد درويش حين اقتبس كثيرا من القوالب الإيطالية كالمونولوج والدياليوج Monologue et Dialogue   وأثرى الساحة الفنية العربية بالجديد....... هكذا هي الحال التي تفرض علينا الإيمان والعمل بمعطيات التجديد تزامنا مع العصر دون إغفال الموروث.



تعليقات