القائمة الرئيسية

الصفحات

دراسة التاريخ الإسلامي في ظل العولمة الثقافية ـ التحدي و المواجهة ـ

 

دراسة التاريخ الإسلامي  في ظل العولمة الثقافية
ـ التحدي و المواجهة ـ






لا شك أن مفهوم العولمة ليس مفهوما جديدا بل إنه مفهوم قديم جدا ، على الأقل في مفهومه المتعلق بالسيطرة  وبسط النفوذ العسكري و السياسي و الاقتصادي و الحضاري .

و لعل التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي في ماي 1997م بعنوان "Globalisation –Opportunities and  Challenges" (العولمة فرص و تحديات ) ، فيه مغالطة واضحة من خلال تعريف يقول :" العولمة هي التكامل السريع لاقتصاديات دول العالم من خلال التجارة الدولية ، التدفقات المالية ، انتقال التقنية ، شبكات المعلومات ، والتبادل الثقافي " .

بل إن  العولمة الراهنة التي نراها الآن لا تعدو أن تكون هي الشراب القديم في آنية جديدة ، وإنما بأسلوب مختلف تمليه ظروف وطبيعة جديدة . ولابد من أن الإنسان قد شعر بأن العالم قد أصبح "قرية واحدة كبيرة" أو بشيء شبيه بها مرات عدة من قبل ، لابد من أن الإنسان الأوربي قد شعر بشيء من هذا عندما وطئت قدماه القارة الأمريكية لأول مرة  منذ خمسة قرون ، وعندما أبحرت أول سفينة بخارية منذ أقل قليلا من قرنين ، وعندما نظر رجل الفضاء لأول مرة إلى كوكب الأرض منذ نحو أربعين عاما ، كل ذلك قبل أن يخرج إلينا الإنسان المعاصر مزهوا أو مندهشا من بزوغ ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات التي يفوق حجم مبيعات كل منها حجم الناتج القومي لعدة دول مجتمعة .

لا بد من أن ماركس و إنجلز كانا يتكلمان عن هذه الظاهرة نفسها ، ظاهرة العولمة منذ مائة وخمسين عاما ، عندما كتبا في "البيان الشيوعي" أن السلع التي تخرج من مصانع الرأسمالية ستأخذ في الانتشار شرقا و غربا ، ولن يفلح في صدها أي سور ولو كان بمناعة سور الصين العظيم .

وعلى الاختلاف حول وضع تعريف دقيق للعولمة إلا أن ثمة اتفاقا على أنه نتاج لتطور تقنيات الاتصال و المعلومات ، وما أدى إليه هذا التطور من تغيّر في أساليب التفكير و الأداء ، وتقريب المسافات بين دول العالم أو تلاشيها حتى أصبح في مقدور الإنسان أن يعقد الصفقات التجارية عبر القارات من غير أن يبرح أحد مكانه ، كما أن متابعة أي حدث في العالم لحظة وقوعه أصبح أمرا طبيعيا ، بل غدا من غير المستساغ فوات الأحداث التاريخية من غير نقلها صوتا وصورة .                                                                      

إذن فكثرة الحديث حول هذه الظاهرة ، وعقد العديد من المؤتمرات و الملتقيات حولها في أرجاء كثيرة من العالم من أجل رصدها و إدراجها بالإكراه ضمن أجندة الفكر و الواقع العربيين ، ليس سببه أنها ظاهرة جديدة على الساحة الدولية بل لكونها برزت بشكل متسارع مذهل على جميع الأصعدة السياسية و الاقتصادية والثقافية .

1 ـ العولمة ..تجلياتها وتحدياتها :

      و الواقع أن للعولمة تجليات و تحديات متعددة متشابكة الأبعاد ، وسوف نتحدث بإيجاز عن بعض  المجالات التي تسعى العولمة لتِؤكد عليها ، وتظهر تأثيرها وتحدياتها في مساراتها المختلفة .

المجال الاقتصادي :

 إن أي تعريف للعولمة لا يخلو من ذكر الأبعاد الاقتصادية لها ..ومحاولة سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة ، وتوجيه اقتصادياتها بما يتماشى مع المصالح العليا للقوى الفاعلة عالميا .

و الحقيقة أن النظام الاقتصادي الدولي الجديد لم ينشأ فجأة ، بل نما في أحضان النظام القديم  وخرج منه ، وقد بدأت بذوره الأولى في منتصف الستينات ثم بدأت توجهاته تتضح في السبعينات وتسارعت وتائره في الثمانينيات، بحيث اتضحت خطوطه العامة وملامحه الرئيسية مع بداية التسعينيات ، ويقرر أن هيكل النظام الاقتصادي الدولي الجديد يتسم بعدد من الخصائص و السمات المهمة وهي :

1 ـ انهيار نظام بريتون وودز (1971 ـ 1973) بإعلان الولايات المتحدة عام 1971 وقف تحويل الدولار إلى ذهب .

2 ـ عولمة النشاط الإنتاجي

3 ـ عولمة النشاط المالي واندماج أسواق المال

4 ـ تغير مراكز القوى العالمي

5 ـ تغير هيكل الاقتصاد العالمي وسياسات التنمية

المجال السياسي :

تسعى الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرض الأنموذج الغربي في الحكم الذي يتمثل في حقوق الإنسان و الديمقراطية على المجتمع الدولي باعتباره المفهوم الأصلح و الأقدر على البناء .

وقد لوحظ أن عددا من الكتابات قد جاء في حقبة التسعينات متضمنا دعوة صريحة لكي تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية هدف نشر الرؤية الغربية لحقوق الإنسان في العالم من ذلك ما تضمنته أحد المؤلفات الحديثة لـ "جوشوا مورافشيك Gohua Muravchik" وهو أحد أبرز باحثي السياسة الخارجية الأمريكية المعبرين بدقة عن أحد روافد التيار اليميني المعروف حاليا باسم " التيار المحافظ الجديد Neoconservatism" حيث أخذ يناقش قضية عالمية وخصوصية القيم و الثقافة الديمقراطية ، وما إذا كان من الممكن تصديرها ، وفيها أظهر اعتقاده الصريح ـ  غير  الحيادي طبعا ـ بإمكانية أن تلعب الولايات المتحدة دورا مهما في نشر الفهم الغربي لحقوق الإنسان من خلال الدبلوماسية الهادئة و المساعدات وحتى من خلال العمل العسكري إن لزم الأمر . 

المجال الثقافي :

لم يكن شأن الثقافة في الماضي يتجاوز إعداد الشبيبة وإنتاج الكبار ولم يكن ثمة بحث عما قد يتضمنه النتاج الأدبي و الفكري و الفني من تجسيد للهوية القومية العميقة و الراسخة أما الآن فقد تغير كل شيء و أصبحت الثقافات منطلقات لإثبات الذات الجماعية و البحث عن الهويات الخاصة كما غدت موضوعات كبيرة للصراع .

و نتيجة لتطور مفهوم الثقافة تطور دورها ، فبالإضافة إلى دورها في تحديد الهويات القومية ، تطور دورها في التنمية الاقتصادية وفي التنمية الشاملة ، فأصبحت منذ مؤتمر المكسيك بوجه خاص عام(1981 )غاية التنمية ، وليست وسيلتها فحسب.

وعلى الرغم من الآمال التي عقدها كثيرون على الحوار بين الثقافات وحول إمكان توليد ثقافة عالمية تغتني بما في داخلها من فوارق فإن مثل هذه الثقافة العالمية لم تر النور حتى اليوم ، وما تزال الصراعات الثقافية قائمة ، بل لعلها تزداد حدة يوما بعد يوم .

صحيح أن بعض الشعارات الجديدة طرحت و لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية ، وبعد سقوط النازية ومن بين هذه الشعارات : تحقيق الديمقراطية للشعوب ، وعالمية الحوار الثقافي المشترك ، وضرورة إنصات الشعوب بعضها إلى بعض ..إلخ ، ولكن شيئا من ذلك لم يتحقق ، ولا نقع إلا على شعارات فارغة في مجال التواصل بين ثقافات الشعوب .

وتعقدت المشكلة ، ولبست حللا جديدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ، وبعد التبشير بولادة نظام عالمي جديد ، إذ سادت  "العولمة " بمعناها الضيق و الوحشي بدلا من النزعة العالمية الإنسانية ، وطفت على شتى جوانب الحياة الاقتصادية و الاجتماعية ، وسارت في طريق يعرِّض مصير الثقافات الإنسانية لمخاطر الذوبان أو الإمحاء أو التشاكل .

وهذا كله يقودنا إلى الحديث عن العولمة الثقافية كمشروع غربي يسعى إلى الهيمنة ، وتنميط الثقافة الأحادية ..مع إلغاء الآخر ، و سيطرة ثقافة الأقوى .

2 ـ العولمة الثقافية مشروع أم هيمنة ؟

إن أحسن تعريف للثقافة هي : أنها المُعبِّر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم ، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون و الحياة و الموت و الإنسان ومهامه وقدراته و حدوده ، وما ينبغي أن يعمل و ما لا ينبغي أن يعمل .

ويلزم عن هذا التعريف لزوما ضروريا النتيجة التالية ، وهي  :أنه ليست هناك ثقافة عالمية واحدة و ليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام ، وإنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية أو بتدخل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة ، من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق و الانكماش ، ومنها ما يسعى إلى الانتشار و التوسع ، ومنها ما ينعزل حينا و ينتشر حينا آخر .

و العولمة قبل أن تكون مضمونا اقتصاديا وتجاريا وسلعيا هي مضمون إعلامي وثقافي متطور تروجه وتؤطره وسائط إعلامية متعددة مثل الفضائيات و الوسائط المتعددة" Multimédia" و الشامل الإعلامي و الشبكات الكونية" Internet" ومن شأن هذا الانفجار في التقنيات أن يخلق صورة قوية ومؤثرة وفاعلة تشجع على الانتشار السريع للأفكار و ترويج البضائع و سلعنة الإنسان و الوجود "Marchandisation de L'homme Et de L'univers" وهي صورة  متسلطة وشمولية وعنيفة عنف مضمونها ذاته .

ويمكن أن تضيع ذات الإنسان كما تضيع أيضا هويته وثقافته ، بحكم :

ـ إلغاء الاختلاف الثقافي و الحضاري

 ـ إلغاء تعدد الإبداع الإنساني وحصره وتضييق الخناق عليه

ـ تماثل البشرية و انتفاء الاختلاف بينها وفق ما هو مخطط له في الاستراتيجيات المهيمنة

ـ إذابة الثقافات الصغرى و إلغاء الخصوصيات و الهويات

ـ خلق عالم اللاثقافات

و لا تنبع التحديات التي تواجه الثقافات الوطنية من لقاء ثقافي ـ حضاري بين ثقافتين غير متكافئتين أو بين نظامين متمايزين ، وإنما التحديات من لقاء أمة متخلفة مدنيا منهكة القوى اقتصاديا لا تمتلك مقومات السيادة على نفسها ، وبين أمة قوية متقدمة تملك أسباب السيطرة والهيمنة .

وفي ظل العولمة الثقافية لم يوحد العالم وفقا لمشيئة إنسانية جماعية بل الذي أنجز التوحيد هو الطرف الأكثر قوة وسلطانا . فالعولمة كمفهوم متداول اليوم ينتمي إلى عالم الغلبة الحضارية الذي طرح هذا المشروع كوسيلة لتعميم غلبته و مشروعه السياسي و الاقتصادي و الحضاري ، فاعتبر التقدم الغربي تقدما للجنس البشري ، وتم اختزال التجربة الإنسانية عبر التاريخ في تجربة الإنسان الأبيض فقط ، وكأن تأكيد الفروقات و التمايزات بين البشر هو مسوغ السيطرة و الهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى وثرواتها ، إذ يبدو ضروريا خضوع الإنسان البدائي للإنسان الأبيض الذي يحتكر الحضارة ويلقي جانبا تاريخ الشعوب و الأمم ، و يحمل لواء العولمة و الكونية . 

ولما كانت مصادر المعرفة تخضع في نظام العولمة لتحكم الشركات التجارية فإن التاريخ لا محالة سوف يصبح معرضا للتشويه و التزييف كما السلع المعروضة ،التي يعلن عنها بالحق أو بالباطل ، وسوف يستقبله الغرب بهذة الصورة الشائهة لأن تأثير الإعلام وقوة وسرعة نفاذه تكرس من جديد ظاهرة " تاريخ المنتصرين" التي طالما حاول المؤرخون و الباحثون الأكاديميون التصدي لها طيلة القرن السابق .

أما بخصوص سعي العولمة إلى صياغة تاريخ المجموعة الإنسانية"كقرية كونية متجانسة" ضاربة عرض الحائط بتاريخ البنى القبلية والدولة والأمة، فهذه من أخطر ما يحيط بالتاريخ الغربي من مطبات، ذلك أن تاريخ العرب والإسلام هو تاريخ قبائل وتاريخ دولة وأمة. لقد انتقلت الجزيرة العربية ببنياتها القبلية قبل ظهور الإسلام إلى تاريخ الدولة الموحدة état unificateur L لتنصهر القبائل تحت لوائها في إطار الأمة العربية-الإسلامية؛ ومن غير المنطقي أن ينسحق هذا الهيكل العام للتاريخ الإسلامي إلى ما هو نقيضه. من ناحية أخرى فإن مفهوم القرية الكونية المتجانسة مفهوم مخادع ومزيف لحقيقة الكون، ذلك أن الاختلاف ناموس من نواميس الله في خلقه، يجري على قدر وينتهي إلى غاية ومن مقتضى هذه النواميس أن تتعدد المجتمعات البشرية وتتنوع في صفاتها وسماتها. والقرآن الكريم الذي يعد المصدر الأول لاستلهام التاريخ العربي-الإسلامي يبين هذه الحقيقة حيث قال تعالى: "لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه" و"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". لذلك نعتقد أننا لا نبتعد عن الصواب إذا افترضنا أن تاريخ المجموعة الإنسانية وهم يسعى إلى إقصاء الخصوصيات التاريخية لكل مجتمع، أو أنه محاولة لأمركة التاريخ العالمي وجعل التاريخ العربي يخضع لرؤاه وتوجهاته، وبعبارة أخرى فإن تاريخ المجموعة الإنسانية هو تاريخ استعماري يحاول أن يخترق التاريخ الإسلامي ويسلبه خصوصيته ويخضعه لقوانينه تمهيدا لاحتوائه ثم التهامه بعد ذلك.

3 ـ لماذا التاريخ الإسلامي على وجه التحديد ؟

من الملاحظ أن اهتمام الناس في الغرب بدراسة التاريخ واجتهاد الكثيرين من العلماء في تحويل هذه الدراسة إلى علم مستقل مستكمل لأشراط العلوم نبع ـ إلى حد ما ـ من قيام القوميات و الدول الكبرى في أوربا خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر ، وواضح أن الأجيال التي قامت بإنشاء هذه الدول و الإمبراطوريات شعرت بالحاجة إلى معرفة الماضي ربما لتستنير به و تؤكد أيضا أن كتابة التاريخ إنما هو صورة من الحوار الذي لن يتوقف بين عصرنا و العصور التي سبقته . 

ويقرر الدكتور محمد مصطفى زيادة ـ رحمه الله ـ :" أن المفتاح الكبير لمغاليق المشكلات في السياسة الدولية و القومية هو التاريخ ...و التاريخ كذلك هو المدخل المأمون للقوانين التي تعين على حلِّ تلك المشكلات .

إن الطب يخرج الأطباء ، والهندسة تعد المهندسين ، والكيمياء تمدنا بالكيمياويين ، ولكنها وغيرها من العلوم المادية لا تشتمل اشتمال التاريخ على قيمة تثقيفية و تربوية ، وكلاهما لازم لتكميل المواطن المفيد ، بقطع النظر عما يقوم به المواطن من عمل مهني نافع لا مشاحة في منفعته . 

و التاريخ الإسلامي يتميز عن غيره من تواريخ العالم بقسمات و سمات أصيلة تهبه شخصية مستقلة ، وهو يعبر عن حصيلة أعظم لقاء بين السماء و الأرض ، و عن طموح الإنسان المؤمن لإعادة سير التاريخ في مجراه الطبيعي ، وانطلاقه نحو هدفه المرسوم في الكون .. التاريخ الذي يصور لنا الجهود العملاقة التي بذلها المسلمون لتشكيل مصير العالم وفق منهج متفرد يجمع في إطار واحد : الظاهر و الباطن ، والحضور و الغياب ، والطبيعة وما وراء الطبيعة ، و المادة و الروح .. ويفتح أمام الإنسان الطريق لتقديم أقصى ما عنده من طاقات في بناء حضارة غير متأججة و لامهزوزة ..حضارة تنساح فاعلية صناعتها على كل المساحات وسائر القطاعات : الآداب و الفنون ، والعلوم و الفلسفة ، والقانون و النفس و الاجتماع ... وتنبثق عن إيمان عميق بدور الإنسان في الكون ، وهدفية فاعليته وتوازنها ..

وفي الوقت ذاته نجد أن كثيرا من الثقافات المعاصرة تريد عولمة قضاياها وهيمنتها على الفكر الإنساني كله ، و أن تعمل جاهدة على فرض مفاهيم أحادية للحدث التاريخي و تفسيره وفق معايير غربية صرفة ، تنبع من فلسفة للتاريخ هي وليدة الفلسفة الغربية بكل ما تحمله من تصورات للإنسان و الكون و الحياة ، وتحاول جاهدة أن تقضي على الشعور بالاستعلاء الحضاري ، وإن كان هذا الاستعلاء ماضويا ( مدنيا وثقافيا).

فالمسلمون اليوم أقدر أمم الأرض على إعادة النظر في التاريخ الإسلامي على اختلاف حقبه وأزمانه ، لأن المصادر العليا للمعرفة و التوجيه التي تلقاها الأولون هي نفسها بين يدي المسلمين اليوم .

لقد عثر التاريخ الأوربي على مؤرخين أعادوا إليه الحياة ، وقدموه في إطار حي كصورة فنية رائعة بكل عناصرها : الخلفية و التكوين و الأضواء و الظلال ، والألوان و المساحات ، ومن زاوية عرقية إقليمية ، أو مذهبية متعصبة ، قدموا تاريخ العالم ، ونحن نلمح في صورهم الشاملة هذه إغفالا متعمدا ـ أو غير متعمد ـ لمساحة من أهم مساحات التاريخ البشري ، تلك التي يحتلها التاريخ الإسلامي الذي يتصف ـ أكثر من غيره ـ بأن بناءه قام على كل عناصر تقويم الإنسان و العالم ، ومن ثم  فإن عرضه وتفسيره لا يتم إلا وفق منهاج حي شامل . 

وينبغي القول في هذا المجال أن عولمة ثقافة القوي ومن بينها فرض تفسيره لأحداث التاريخ وقراءتها .. سواء منها الأحداث الماضية أو التي نعيشها  ـ وهي بدورها دخلت سجل التاريخ  ـ هي في ذات الوقت اختزال لتاريخ المسلمين وضرب له  في المقاتل ، وخنقه في مضايق تحدد مسالكها الثقافة السيدة! .

4 ـ الإستشراق... و القابلية للعولمة:

لما كان التاريخ الإسلامي هو أهم عومل بناء الأمة المسلمة ووحدتها ، ودراسته تعمق صلة  الفرد المسلم بأمته ، وتزوده بكثير من المثل العليا ، وتنبهه إلى الأخطار التي تواجه الأمة في مسيرتها الطويلة ، فقد عرف أعداء الإسلام أثر هذا العامل في وحدة الأمة منذ وقت مبكر .. فعملوا جهدهم على إبعاده وتشويهه و الدس فيه ، عن طريق حركة ثقافية سميت بـ " حركة الاستشراق " .

وقد بدأت هذه الحركة تبدو منظمة ومنسقة في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي ، وبدأ جربر أرالياك (Gerber de araliac)، وقسطنطين الإفريقي (Contontian African)، وأدلرد باغ(Adelardy bagh)، وروجر بيكن (Roger Bacan)، وجون الدمشقي ، بدأوا  حملاتهم المغرضة على التاريخ الإسلامي و السيرة النبوية .

وبعد قرون بدأ كل من فولتير (Voltaire)، وأليكسندر روس (Alexander Ross)، وهيليبرت(Hidebirt)، ودانتي (Dante)، وغوليوم بوستل(   Guilliaume Bostel)، وجوزيف إسكاليه (Joseph Scaliger) في طبع أبحاث معادية للإسلام و تاريخه .

ومنذ القرن السادس عشر الميلادي بدأت حركة الإستشراق عملها طبقا لخطة عملية محكمة، وصلت إلى ذروتها في القرنين السابع عشر و الثامن عشر الميلاديين ، إذ قام المستشرقون المشهورون من أمثال ويليم بدويل (William Bedwell)، وب.قاتيه (P.Vattier)، بتشويه السيرة النبوية ، وكانت دوافعهم دوافع دينية بحتة..

وخلال القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين وصلت حركة الاستشراق إلى قمتها ، وفي هذه الفترة قام عدد من المستشرقين بالبحث عن جوانب التاريخ الإسلامي  و البحث في أزمنته المختلفة ، وألقوا الضوء على نواياهم واتجاهاتهم من وراء أبحاثهم تلك . ومن بين هؤلاء جون جاك سيديلّو ، وديفرجيه (Desvergers)، وبيرون (Perron)، وجوزف و ايت (Joseph White)، و ي. هـ بالمر (E.H.Palmer)،ودي غوييه (De Goeje)، ووسنفيلد (Wustenfeld)، وبيريزين(Beresine)، وسخاو (Sochau)، وفان كريمر (Van Kremer)، ووليم ميور (William Muir)، وليبون(Lebon)، وجولدتزيهر (Goldziher)، وولهاوزن (Wellhausen)، وغيرهم .

وأيضا قام مستشرقو العصر الحديث بالكتابة عن الإسلام والتاريخ الإسلامي من وجهة نظرهم الاستشراقية الخالصة ، ونذكر من بينهم : مونته (Montent)، و، ج ديمومبيونه (G. Demombynes)، و، ت. أرنولد (T. Arnold)، و إس لين بول (S.lan–Poole)، ونكلسون (Nicholson)، ونولدكه (Noldeke)، وهرجرنيه (Hergernje)، وجوزيف هوروتس (Joseph Herotitz)، وبروكلمان (Broekolman)، وبارتولد (Bartthold)، وهـ .ج. ويلز (H.G.wells)، وهـ . جب (H. Gibb)، وسميث (W.C.Smith)، وجوزف شاخت (Joseph Schacht)، وبرنارد لويس (Bernard Leuis)، وتور اندريه (Tor Andre)، وفرانسيسكو جبرائيلي (Francisco Gebraeli)، ومونتجمري وات (Montgemry Watt).

وقد ظلت الحركة الاسشراقية من خلال طائفة من  المستشرقين الذين أعمى التعصب أعينهم ، وطمس الهوى بصائرهم  يتشحون برداء الفكر العلمي ، والموضوعية العلمية ، و التحليل  والنقد . والواقع أن دراساتهم ذبحت على أعتابها كل معاني الموضوعية، والأمانة العلمية، و النقد البناء . وقد اتخذوا لذلك أساليب منها :

تأسيس الجمعيات ، وإصدار المجلات ، وفتح مراكز ثقافية خاصة بالدراسات  الشرقية مثل جمعية نشر المخطوطات الشرقية في مكتبة باريس سنة 1787م ثم الجمعية الأسيوية الفرنسية سنة 1820م ، التي أصدرت المجلة الأسيوية .

وتتابعت الجمعيات الأسيوية ومجلاتها ، في أمريكا سنة 1842م ، وكذلك في ألمانيا و النمسا و إيطاليا و روسيا و بلجيكا و الدانمارك .

كما اتجه الاستشراق بمعونة دوله إلى إقامة مراكز ثقافية ثابتة ، لها نشاط متعدد الجوانب في بلاد الشرق ، وشهدت القاهرة ودمشق قيام المعهد الفرنسي في كل منهما ... واضطلعت الجامعة الأمريكية بنشاط تعليمي في القاهرة وبيروت .. فضلا عن معاهد أخرى :ألمانية وإيطالية و إسبانية ..كما عقدت مؤتمرات للمستشرقين على سنوات متتابعة وفي عواصم مختلفة من مؤتمر باريس سنة 1873م إلى مؤتمر 1931م . وتتابعت المؤتمرات من بعد ..و لاتزال تتوالى بأسماء متعددة حت الآن .

و لا يزال الاستشراق يعمل على الرغم من أن ( جاك بارك) قد أدلى بتصريحات عام 1975م أعلن فيها عما سماه : انتهى زمن الاستشراق ، وتقرّر أن يطلق على أي مؤتمر للاستشراق ( مؤتمر العلوم الإنسانية ).

5 ـ كتابة التاريخ .. و المواجهة الواعية:

تسعى الدراسات التاريخية الغربية إلى كتابة التاريخ الإسلامي من زاوية نظر إقليمية تجعل أوربا مركزا للعالم تدور حول قطبه كل المساحات الأخرى في الأرض ، وما عليها من شعوب و دول وحضارات ، حيث تغدو في معظم الأحيان أشبه بالظلال الباهتة لهيكل التاريخ الأوربي الذي يشع نورا وبهاء!!، وهذه بدورها مرحلة متقدمة من مراحل العولمة ..أي عولمة التاريخ الغربي ، وتفسير جميع أحداث تواريخ الأمم الأخرى بما يخدم تاريخ الغرب وحضارته .

ويعلِّق ليوبولد فايس (محمد أسد )على هذه لرؤية القاصرة في كتابه " الطريق إلى مكة " يقول : " لقد مال المفكرون و المؤرخون الأوربيون منذ عهد اليونان و الرومان إلى أ ن يتبصروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوربي ، والتجارب الثقافية الغربية وحدها ، أما المدنيات غير الغربية فلا يعرف لها إلا من حيث إن لوجودها أو لحركات خاصة فيها تأثيرا مباشرا في مصائر الإنسان الغربي ، وهكذا فإن تاريخ العالم وثقافاته العديدة لا يعدو أن يكون في أعين الغربيين تاريخا موسعا للغرب . وطبيعي أن النظر من هذه الزاوية الضيقة لا بد أن يوقع العين على مشهد مشوه غير سليم ، إن الأوربي أو الأمريكي العادي ، بما اعتاد أن يطالع من الكتب التي تعالج أو تبحث مسائل مدنيته الخاصة بتبسيط و توسع يضفيان عليها ألوانا حيّة ، دون أن تلقى على سائر أجزاء العالم سوى نظرات عابرة هنا وهناك ، ليستسلم ويرضخ بسهولة ويسر إلى الوهم الخادع الذي يصور أن الخبرات الثقافية الغربية ليست أسمى من سائر الخبرات الثقافية في العالم كله فحسب ، بل لا تتناسب معها على الإطلاق ، وبالتالي إن طريقة الحياة الغربية هي النموذج الصحيح الوحيد الذي يمكن أن يتخذ مقياسا للحكم على سائر طرائق الحياة ، وإن كل مفهوم ثقافي أو مؤسسة اجتماعية أو تقييم أدبي يتعارض مع النموذج الغربي إنما ينتمي ـ حتما ـ إلى درجة من الوجود أدنى وأحط ، ومن هنا نرى أن الغربي تمثُلا باليونان و الرومان ، يجب أن يعتقد أن جميع تلك المدنيات ليست أو لم تكن إلا تجارب متعثرة في طريق الرقي ، هذا الطريق الذي تتبعه الغرب بكثير من السداد و العصمة من الخطأ . أو أنها في أفضل الأحوال ـ كما هي الحال في مسألة المدنيات السالفة التي سبقت مدنية الغرب الحديث مباشرة ـ ليست أكثر من فصول متتابعة في كتاب وحيد فريد آخره ـ غير شك ـ المدنية الغربية " . 

هذا  هو المنهج الغربي في صياغة تواريخ الأمم و الشعوب الأخرى ، فإنه يسعى إلى فرض أنموذج نمطي لكتابة التاريخ وتحقيبه . وسوف أعرض لمثال واحد لأحد مفكري الغرب ومؤرخيهم وهو المؤرخ الأمريكي ( مارشال هودجسن) الذي يميز داخل التاريخ الإسلامي الفترات التالية :

1 ـ فترة أولى تمهيدية تمتد من سنة 750 إلى سنة 1000م (134 إلى 392هـ)

2 ـ فترة ثانية كلاسيكية من 1000 إلى 1250م (392 إلى 648هـ )

3 ـ فترة ثالثة وسيطة من 1250 إلى 1500م(648 إلى 906هـ ).

4 ـ فترة رابعة وهي عهد الإمبراطوريات الثلاث من 1500 إلى 1800م (906 إلى 1215م ).

5 ـ فترة خامسة حديثة من 1800 إلى العصر الحاضر .

      وهدف هودجسن من هذا التقسيم هو إدخال تاريخ الإسلام في نطاق التاريخ العالمي ، أو بعبارة أخرى عولمة التاريخ الغربي المرتبط بالتاريخ الميلادي فهو يسمي عهد الازدهار الحضاري في تاريخنا (من القرن الرابع إلى القرن السابع ) عهدا كلاسيكيا نظرا لما تمثله هذه الفترة من تفكك سياسي وانحطاط ثقافي و انكماش اقتصادي في تاريخ الغرب . كما يطلق على الخلافة الإسلامية ، العثمانية وما عاصرها من الدول الفارسية و المغولية بالإمبراطوريات الثلاث .

" لقد اعتبر التقدم الغربي تقدما للجنس البشري ، وتم اختزال التجربة الإنسانية عبر التاريخ في تجربة الإنسان الأبيض فقط ، وكأن تأكيد الفروقات و التمايزات بين البشر هو مسوِّغ للسيطرة و الهيمنة على مقدرات الشعوب الأخرى و ثرواتها ، إذ يبدو ضروريا خضوع الإنسان البدائي للإنسان الأبيض الذي يحتكر الحضارة ويلقي جانبا تاريخ الشعوب و الأمم و يحمل لواء العولمة والكونية".        

وسأضرب لذلك مثلا حول وضع دول العالم الإسلامي في النظام الدولي بعد سقوط الخلافة العثمانية ، فقد شهدت أدبيات العلاقات الدولية الغربية عددا كبيرا من الدراسات التي ركّزت على تطور العلاقات الدولية منذ العشرينات من هذا القرن ، وبالرغم من هذه التعددية إلا أن الغالبية العظمى من هذه الكتابات لم تجعل العالم الإسلامي وتفاعلاته محورا لتحليلاتها . فهي غاليا ما تعكس وجهة النظر الغربية ، أو تركز بصفة أساسية على ظاهرة الصحوة الإسلامية ، ومراجعة بسيطة للأدبيات التي تركز على تطور النظام الدولي ككل خلال فترة ما بين الحربين أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية فهي تعتمد على المعيار الجغرافي في تقسيمها للعالم ، وتجعل من الأحداث الأوربية وتلك الخاصة بالقوتين العظميين نقاط التحول في متابعتها للنظام الدولي ، كما وأنها تتناول تاريخ الدول غير الأوربية بصفتها الفاعل المفعول به في التفاعلات الدولية .

فعلى سبيل المثال نجد (E.H.Carr) يركز في تحليله للنظام الدولي في فترة ما بين الحربين على موضوعات مثل التسوية الأوربية ، أمريكا و الشرق الأقصى ، وفرنسا و الحلفاء ، ألمانيا و الهزيمة ، الاتحاد السوفياتي و الغزو الياباني لمنشوريا . كذلك فإن هذه الأدبيات تركز على  الأحداث الأوربية و تلك الخاصة بالقوتين الأعظم ( في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ) مثل الحرب الباردة ..

 أما سقوط الخلافة والتي تعتبر نقطة تحول في تاريخ الوضع الرسمي للعالم الإسلامي في النظام الدولي ، فيتم التعامل معه كأحد الأحداث الثانوية في إطار التطرق لمشروع الشرق الأدنى و إفريقيا ، حيث تأتي الإشارة إليه كأحد الأحداث المرتبطة بالتطورات في تركيا وتولي ( كما أتاتورك ) الرئاسة التركية وإلغاء النظام الشرعي المستمد من القرآن و السنة ، ليحل محلّه نظام يرتكز على المبادئ العلمانية المستمدة من المبادئ الأوربية . أما التأثير في وضع الأقاليم العربية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية فتأتي الإشارة إليها في إطار إبراز هذه الكتابات لدور عصبة الأمم في فترة ما بين الحربين.

وبهذه التقسيمات تأثرت المناهج التربوية ، وكتب التاريخ المدرسية و الجامعية ، إذ نلاحظ أن هناك اختلافا كثيرا في التقسيمات و التحقيبات المعتمدة ، بل إنه لا يوجد أي توافق أو تجانس في تاريخ الدول الإسلامية العربية و غير العربية .

و الواقع أن الأخذ بهذا التقسيم وتطبيق هذه المناهج في كتابة التاريخ الإسلامي أتى بثمار مُرّة سواء على مستوى القراءة الرسمية ( الجامعية ) أو مستوى القراءة الهاوية لأحداث التاريخ . وستظل هذه الثمار  المُرة تؤتي أُكلها إلى أن يحدِث المؤرخون وخاصة الجامعيون منهم انقلابا جذريا في المناهج و طرق صياغة التاريخ الإسلامي وتحليل أحداثه .


----------------------------------------------
المصدر: نجيب بن خيرة، أبحاث اسلامية في الفكر والتاريخ

تعليقات