التدوين التاريخي عند
المسلمين دوافعه وتطوراته
خلال القرون الثلاثة الأولى
للهجرة
إن عملية استقراء تاريخ
الأمم والشعوب اليوم أصبح سهلا ميسورا، إلى درجة تُمكن المؤرخ من رؤية اللحظة
التاريخية في زمانها ومكانها المحددين بأكثر من حاسة، ومن جميع الزوايا، وبشتى
التحاليل، وبلغات متعددة ..
هذا الأمر لم يكن يتوفر
للمؤرخ قديما، الذي كان في الغالب يحافظ ولا يلاحظ، يحفظ ولا يعي، يقوم بوظيفة
الاحتفاظ بالخبر ولا يتعداه .. وقد ظل الخبر في الثقافة العربية الإسلامية يتمتع
بأهمية كبيرة، يشكل نواة حقيقية في النسيج التاريخي المتنوع الذي زخرت به حياتنا
العلمية عبر العصور.
والواقع أن المعاناة التي كان يعيشها المؤرخ في القديم حتى يحصل على
الأخبار المتفرقة ويجمع المعلومة التاريخية من أطرافها هي التي دفعته إلى تدوين
الروايات الشفوية التي كانت محفوظة في الصدور، لعدم شيوع الكتابة في المجتمع
العربي قبل الإسلام بدوا وحاضرة .
فالدارس لتاريخ العرب قبل
الإسلام لا يكاد يلحظ اهتمامهم بالكتابة التاريخية إلا لماما، وذلك حتى عند البلاد
الضاربة بجذورها في أعماق ا لحضارة مثل اليمن فإنه لم يصلنا منها كتب تاريخية
مدونة باستثناء بعض النقوش التي سجلوها على مبانيهم القديمة وقلاعهم العتيدة وفي
كتابات وجدت في خزائن ملوك ا لحيرة مودعة في الأديرة والكنائس ببلادهم . وإن كنا لا نعرف
عنها شيئا فيما عدا ذلك.في حين كان عرب الحجاز يهتمون بأخبارهم عن غزوا تهم
ومعاركهم مما عرف عند هم باسم الأيام. يقول صاحب كشف الظنون: إن علم أيام العرب هو
علم يبحث فيه عن الوقائع العظيمة، والأهوال الشديدة بين قبائل العرب ...وينبغي
لذلك أن يجعل فرعا من فروع التواريخ. وفي الحقيقة فإن نشأة
التاريخ عند العرب قد ارتبط ارتباطا أساسيا باهتمام العرب بموضوعين أساسيين في
تاريخهم:
ـ أولها: الدقة في حفظ الأنساب وذلك عن طريق
الاهتمام بتسلسل الآباء والأجداد وأصول الأفراد والأسر و الجماعات .
ـ وثانيهما: رواية أخبار
حروب القبائل و انتجاعاتها ومفاخرها رواية شفهية تنقل من جيل إلى جيل، وكثيرا ما
كان أمراء العرب وملوكها يسهرون على سماعها والإصغاء إليها من الرواة ويشجعونهم
على حفظها والاعتناء بها . وكذلك جاء أن أهل ا
لحيرة كانوا يعنون بتدوين أخبارهم وأنسابهم وكانوا يضعون ذلك في بٍيعهم. ولقد ورد
أن النعمان ملك الحيرة أمر بنسخ أشعار العرب، فدونت له الطنوج ـ الكراريس ـ ثم
دفنها في قصره الأبيض، وقد نبشت أيام ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي.
وقد كانت كل قبيلة عربية
تحفظ أنسابها، وتحفظه أبناؤها فتتناقله الأجيال وتتيه به فخرا على القبائل الأخرى،
وكل ذلك كان مصحوباً ببطولات ممزوجة في كثير من الأحيان بالأساطير والخرافات
والتحيز والمغالاة .وقد عرف العرب أيضا أخبار من جاورهم من الشعوب والأمم كالروم
والفرس مثلا. حتى إن النضر بن الحارث يروى أنه كان يتطاول على النبي عليه الصلاة
والسلام بمعرفته أخبار الفرس ولكن ذلك التاريخ لا يعدو في أغلبه أن يكون قصصا
خيالية، وخرافات أسطورية لا تختلف عما كان يصنعه المخيال العربي في بلاد العرب
شمالا وجنوبا.
إلى أن جاء الإسلام فإنه
أعطى لحوادث التاريخ مفهوما جديدا، ومعيارا مغايرا ومنهجا مختلفا ينطلق أساسا من
مكانة الإنسان ودوره في الحياة وحركة التاريخ التي يصنعها ويسير وفق سننها.
و لكن كيف
شقت عملية تدوين التاريخ مجراها الطبيعي في الحياة العلمية في القرون الثلاثة
الأولى للهجرة ؟ ما هي دوافع هذا التدوين، وما المدراس التي طورته وبرّز فيها
أعلام الرواة والإخباريين حتى صاروا هم عمدة المادة التاريخية في جميع مصادرنا
التاريخية بعد ذلك ؟، وعن هؤلاء الرواة أخذوا، وإليهم رجعوا في تدوين السير
والمغازي والتواريخ العامة والخاصة .
1 ـ دوافع التدوين التاريخي:
لما جاء الإسلام انتشرت في
البلاد الإسلامية حركة تاريخية واسعة النطاق،تركت في إثرها مادة تاريخية ضخمة وقد
كان لذلك الجهد بواعث هامة ودوافع رئيسة جعلت هذا العلم ـ أي علم التاريخ ـ يصبح
من أهم العلوم عند المسلمين. ولعلّ من أهمها:
1 ـ حاجة المسلمين في تفسير
القرآن الكريم إلى معرفة مناسبات آياته من موضع النزول إلى المكي والمدني إلى
الليلي والنهاري، إلى الذي نزل في السفر أم في الحضر، مما يحتاج إلى بحث تاريخي في
حوادث الإسلام، وهكذا كان التفسير من العوامل التي دعت إلى التدوين التاريخي.
2 ـ الحاجة إلى معرفة سنة
النبي صلى الله عليه وسلم لأهميتها في التشريع كمصدر ثان له. قال تعالى: لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا
الأحزاب 21. فالوقوف على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله كان ضروريا للاهتداء بهديها، والاستناد
إليها في التشريع وفي السلوك السوي في الحياة، كما أن غزواته صلى الله عليه وسلم
وغزوات أصحابه كانت لونا من ألوان المعرفة التي تبصر الناس بحياة نبيّهم لما ترتب
عليها من أحكام، ولتحقيق هذه الحاجة بدأ العمل في جمع أخبار السيرة النبوية و المغازي
وتدوينها .
3 ـ رغبة الخلفاء في الإطلاع
على سياسات الملوك ليعرفوا كيف يسوسون شعوبهم، خاصة بعد أن تعددت المشكلات
السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها في الدولة العربية وتشعبت شؤونها.
وقد ذكر المسعودي أن معاوية
كان بعد أن يفرغ من عمله يستمر إلى ثلث الليل يستمع إلى أخبار العرب وأيامها،
والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة. ثم يدخل فينام
ثلث الليل ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب والمكايد
فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون وقد وكلوا بحفظها وقراءتها فتمر بسمعه كل ليلة
جملة من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات.
4 ـ نظام العطاء والجند: فقد
كان توزيع الجند في الجهاد والفتوح على أساس قبلي، وقد استلزم تنظيم
شؤون الدولة المالية الاهتمام بهذا النوع من التاريخ فظهرت كتب " الطبقات
"
5 ـ تقدير الجزية والخراج عن
طريق معرفة فتوح البلدان وذلك لأغراض ودوافع شرعية منها معرفة البلدان التي فتحت
عنوة وتمييزها عما فتح صلحا، وكذلك معرفة أي سكان البلاد أهل عهد وأيهم أهل ذمة؟،
لما يترتب على هذه المعرفة من أحكام شرعية في التعامل مع أهل البلاد وجباية
الأموال لبيت مال المسلمين من الخراج والجزية وغيرها.
6 ـ تمحيص الروايات والأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك ينبني على العناية بتراجم الرجال وتدوينها .مرتبة على نظام الطبقات أو حسب البلدان والمدن أو حسب تاريخ الوفيات أو على حروف المعجم لمعرفة ما في السند من علل كالاتصال أو الانقطاع أو نحوه .. وقد نشأ عن هذا التدوين ظهور تواريخ المدن ممثلة في تراجم رجالها وعلمائها.
7 ـ لقد أدى ظهور الفرق والتيارات السياسية مثل الخوارج والشيعة
والقدرية وغيرهم إلى تسجيل الأحداث ومعرفة استخدامها في تأييد وجهات نظرها أوفي
الدفاع عنها للرد على خصومها .
8 ـ الحركة الشعوبية: وهي
تسمية مشتقة من الشعوب، أي العودة إلى ماضي الشعوب والتفاخر بعصبياتها الجغرافية
والتاريخية، والشعوبيون هم الذين يحقدون على العرب ولا يرون لهم فضلا على غيرهم.
فيصغرون شأنهم، ويهاجمون رسالتهم ويصفونهم بأحقر الأوصاف، وكانت وسيلتهم للوصول
إلى غايتهم هو التشويه والدس على العرب بغمز تاريخهم وإبراز مقالبهم وتقصيها .
فمثلا قالوا:"لم تزل
الأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض لها ملوك تحميها ومدائن تضمها وأحكام
تدين بها وفلسفة تنتجها، وبدائع تُفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج
وهي أبدع صنعة ولعبة الشطرنج وهي أشرف لعبة ورمانة القباّن ...ومثل فلسفة الروم في
ذات الخالق والقانون والإصطرلاب .... ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم
قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في
فلسفة، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركتها فيه العجم وذلك أن للروم أشعارا عجيبة
قائمة الأوزان والعروض .. فما الذي تفخر به العرب على العجم ..؟ " ، ومما قالوه أيضا:
" لكل أمة في ماضيها ميزة، فالرومان تفخر باتساع سلطانها وكثرة مدنها وعظمة
مدنيتها، والهند تفخر بحكمتها وطبها وكثرة عددها، والصين تزهو بصناعتها وفنونها
الجميلة، على حين لا يوجد للعرب قبل الإسلام شيء تمتاز به جدب في الأرض ! كانوا في جاهليتهم يقتلون أولادهم من الفقر
ولا يستقر لهم حال من الغزو والسلب، ويفعلون المكرمة الصغيرة كإطعام جائع، وإغاثة
ملهوف فيملؤون بها الدنيا شعرا ونثرا ويتيهون بذلك فخرا! ".
وقد جعلت هذه المواقف كثيرا
من المؤرخين والأدباء العرب يتصدون لهذه الحملة الشرسة على الجنس العربي ويردون
عليها معتمدين في ذلك على تاريخ الشعوب وحضارتها وشؤونها الاجتماعية والثقافية،
ولعل أبرز من تصدى لذلك أبو عمرو الجاحظ .
9 ـ ظهور الورق: كان الناس
قبل ظهور صناعة الورق يستعملون للكتابة الجلد أو ورق البردي أو ألواح الطين، وقد
عرف الصينيون صناعة الورق قبل غيرهم من الأمم، ومن الصين انتقلت هذه الصناعة إلى
سمرقند في بلاد ما وراء النهر، ولما فتح المسلمون هذه البلاد عام (94م /712هـ)
تعلموا تلك الصناعة ثم لم يلبثوا أن أدخلوا عليها تحسينات جوهرية، فاستخرجوا الورق
من الكتان والنباتات ذات الألياف، كما استخرجوه من الخرق القطنية التي تحتاج
صناعته منها إلى مهارة يدوية وحرفية عالية .ومن سمرقند التي امتازت بكاغدها (كاغد
سمرقند) نقل المسلمون صناعة الورق إلى بغداد. إذ تمكن الفضل بن يحي البرمكي والي
الخليفة هارون الرشيد على خراسان من تأسيس أول مصنع للورق في مدينة بغداد عام
(178هـ /794م). وقد أعانت هذه الصناعة
بشكل واضح حاسم على نقل التدوين الفكري ـ (و التاريخي من جملته) ـ من الذاكرة إلى
الشكل المكتوب.
كانت هذه هي أبرز الدوافع
وأهم البواعث على التدوين التاريخي عند المسلمين وهناك دوافع ثانوية، فردية كانت
أو جماعية مثل الرغبة في القصص والوعظ لما له أثر في إيجاد الرغبة لحفظ تلك
الأخبار وتدوينها، بالإضافة إلى وضع التقويم الهجري وتحديد بدايته من الهجرة
النبوية إلى المدينة في عهد عمر بن الخطاب t مما أدخل عنصرا حيويا على الفكرة التاريخية
الإسلامية، وكان خطوة هامة جدا في توطيدها، وساعد على ضبط الأحداث وترتيبها يقول
عبد العزيز الدوري: "ومن ذلك الوقت أصبح توقيت الحوادث أو تأريخها العمود
الفقري للدراسات التاريخية ".
وإلى هذا كله كانت الرغبة
العلمية الخالصة وحب تدوين العلم وحفظه دافعا للكثيرين لجمع المعلومات التاريخية
وتبويبها وتنسيقها. ثم إن التدوين بصفة عامة ظاهرة من ظواهر التمدن واستقرار
الدولة وتوسع أنشطتها، والحركة التأليفية تبرز التحول الخطير الذي كان يعانيه
العقل العربي في تلك الفترة .وأنه آخذ في التمدن السريع، وذلك بمشاركته في حركة
التدوين والتأليف.
2 ـ مدارس الحركة
التاريخية ودورها في تطور التدوين:
لاشك أن معرفة المدارس التي ظهرت في
البلاد الإسلامية المشتغلة بتدوين التاريخ وحوادثه سوف يبرز تطور علم التاريخ عند
المسلمين من مرحلة القصص والأساطير الشعبية التي كانت سائدة قبل الإسلام إلى مرحلة
تأريخ السيرة والمغازي التي تأثرت نوعا ما بالمرحلة السابقة ـ أي الأيام ـ إلى
مرحلة استقرار الدولة الإسلامية ونشوء الدواوين التي أصبحت مصادر تاريخية يستقي
منها المؤرخون مادتهم الخبرية من المراسلات الرسمية والعهود والإحصاءات .ثم مرحلة
الترجمة عن اللغات الأجنبية حينئذ. فبرز عدد كبير في مرحلة تعرض الدولة العباسية
للحركات الانفصالية في المشرق المغرب من المؤرخين الذين اشتغلوا بتواريخ الدول
وتواريخ المدن والحواضر مجسدة روح التنافس بينها. على أن التطور الهام في التدوين
التاريخي عند العرب يتمثل في النظرة للتاريخ على أنه علم له أصوله في البحث
والكتابة .
وعلى ضوء ما تقدم يمكننا أن
نلمس آثار هذا التطور في معرفة المدارس التاريخية وخصائص كل مدرسة مقتصرين في ذلك
على ثلاث مدارس وأبرز أعلامها فيها إلى عصر ابن جرير الطبري، مبينة في الرسم
البياني المرفق مع البحث، وهي: 1 ـ المدرسة اليمنية 2 ـ المدرسة الحجازية 3ـ المدرسة العراقية.
أولا: المدرسة اليمنية:
اهتمت هذه المدرسة بأخبار
أهل الكتاب وتاريخ اليمن، ومن أسباب ظهورها ذلك التنافس القديم بين عرب الجنوب
العريقين في التوطن الحضاري، وبين عرب الشمال الذين صاروا بعد الإسلام حديثي نعمة
وحكم وحضارة. والواقع أن نزوح اليمنيين أنفسهم مع النازحين إلى ديار هجرة جديدة،
واحتلال الخليج العربي المكان التجاري البحري الأول عزل اليمن وقلل الاهتمام بها
وجعل أخبارها نادرة وغير مستقاة من الموارد الأصيلة ..الصحيحة. وترك لنا في
النتيجة روايات يغلب عليها الطابع الأسطوري القصصي بل هو مزيج من القصص الشعبي،
والإسرائيليات، وبأسلوب لا يخرج كثيرا عن أسلوب قصص أيام العرب، ومن بين الذين
يمثلون هذه المدرسة) ـ
1) ـ عبيد بن شرية الجرهمي
اليمني:
اختلفوا في أصله فروي أنه
كان من أهل صنعاء وقيل من الرقة بالعراق والأرجح أنه كان يمنيا جرهميا بالذات،) .كان قصاصا إخباريا
أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسمع منه شيئا، ولما كان معاوية بن أبي
سفيان وابنه يزيد ثم الخلفاء من بعده واعين أوضح الوعي بالحضارة اليمنية وقيمتها
ومكانتها في التاريخ العربي فقد استقدموا رجالها إليهم فقد عهد معاوية لعبيد بن
شرية تربية ابنه يزيد وتعليمه تاريخ اليمن قبل الإسلام وأخبار ملوكها وأشعارها. وقد ألف له كتاب
" الملوك وأخبار الماضين " ويتضمن أخبار العرب في الجاهلية ويشتمل على
كثير من الأشعار التي وضعت على لسان عاد، وثمود، وطسم، وجديس، والتتابعة… وكذلك
يضم الكتاب بعض أخبار عن بني إسرائيل، ويغلب على جميع هذه الأخبار القصص الشعبي
المتأثر بالإسرائيليات.
2) ـ وهب بن منبه اليماني:
هو أبو عبد الله وهب بن منبه
ولد حوالي سنة 34هـ تولى منصب القضاء في عهد عمر بن عبد العزيز وحبس فترة من الزمن
ولا نعلم طوال مدة حبسه ولا سبب ذلك. ويقال إنه كان في بادئ الأمر من أتباع
القدرية ولكنه ندم على ذلك فيما بعد وتوفي سنة 110هـ أو 114هـ. كان وهب بن منبه من
أكثر مؤلفي العصر الأموي تصنيفا، وكان على معرفة وثيقة بمأثور أهل الكتاب وإليه
ترجع معارفه حول خلق العالم، وتأريخ الأنبياء وبني إسرائيل . ويعزى له أنه قال
" قرأت ثلاثة وتسعين كتابا مما أنزل الله على الأنبياء " ويقول عنه حاجي
خليفة أنه جمع المغازي . ولكن مغازي وهب لا
يشار إليها في تواريخ السيرة ولا أثر لها في أدب المغازي لأنها جاءت بأسلوب قصصي
أسطوري لا إسناد فيه. مما يجعلنا نضعه في
مكانه الصحيح باعتباره من كتاب الأقاصيص والأساطير اليمنية استطاع أن يدخل عنصر
القصص إلى الدراسات الإسلامية .
وقد نسبت إليه العديد من
المؤلفات رغم أنه لم يصلنا منها إلا القليل مما أورده الطبري وابن قتيبة وغيرهما
من مقتبسات له. ومما ينسب إليه كتاب " الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم
وقصصهم وقبورهم وأشعارهم " وكتاب " المبتدأ "رواه حفيده عبد المنعم
بن ادريس، وهو أول محاولة عند العرب لكتابة تاريخ الرسالات، وقد اعتمد عليه ابن
قتيبة في المعارف، والطبري في كتابه " تاريخ الرسل والملوك " والمقدسي
في كتابه " البدء والتاريخ "، وأحمد بن محمد الثعلبي في كتابه "
عرائس المجالس في قصص الأنبياء ".
و الحقيقة أن التآليف في هذه
المرحلة بهذه الطريقة تدل على أن العرب الأقدمين كان ينقصهم حينئذ قوة الإبداع
والنفوذ إلى الحقائق حتى فيما يتصل منها بحوادث عصرهم ومع ذلك قبلت الأجيال
التالية رواياتهم في مجموعها وأدمجها المؤرخون وكتاب آخرون في مؤلفاتهم.
والواضح من
روايات وهب بن منبه أنها لا تترفع عن التحريف والمبالغة والكذب وقد اعتبر السخاوي
التعويل على أخباره لا يكون إلا من قبل جهال المؤرخين. مما جعل هذه
المدرسة تموت رغم جهود أصحابها وإن بقيت في السيرة وفي كتب التاريخ روايات وأخبار
كثيرة منها.
وحصيلة ما قدمته هذه المدرسة
من عبيد بن شرية إلى ابن منبه أنها وضعت الخطوط الأولى لمدرسة تاريخية إقليمية
خاصة باليمن دخلت في التاريخ العربي واندمجت فيه.
ثانيا: المدرسة الحجازية: (المدينة المنورة ).
لما كانت المدينة المنورة هي
عاصمة الدولة الإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من
بعده وموطن الصحابة الكرام، فإن الاهتمام بها ضروري لمعرفة أوسع بالدين عن طريق
معرفة حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتفاصيلها، بل كان الصحابة يعلمون سيرة الرسول
ومغازيه لأبنائهم كما يحفظونهم السورة من القرآن، وقد كان تدوين هذه السير
والمغازي متساوقا مع تدوين السنة المطهرة، وسنشير بإيجاز لاثنين من أ برز المنتمين
لهذه المدرسة وما تناولته كتاباتهم لإلقاء بعض الضوء على هذه المدرسة التاريخية
واتجاهات أتباعها، ومن أبرزهم:
1) عروة بن الزبير (22هـ ـ
93هـ )
أحد فقهاء المدينة السبعة،
وأول من أرسى قواعد الكتابة في السيرة النبوية، وأول من كتب في المغازي. وقد وصلت إلينا بعض
كتب له مقتبسات وردت عند الطبري وابن اسحق والواقدي، ولنا أن نعدها أقدم ما وصل
إلينا مدونا عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومنهج عروة
في كتابة المغازي حسبما يتضح من النسخة المستخرجة يقوم على الاستشهاد بالآيات
القرآنية ويستعمل الأشعار لكن بقلة، ويهتم كثيرا بالأنساب، وله عناية بإيراد
الوثائق والكتب التي كتبها رسول الله e. كما أنه قليل الاستعمال للأسانيد، بينما تجد
نفس الروايات في كتب السنة مسندة وخاصة ما كان عن طريق الزهري، وهذا راجع إلى
طبيعة كتب السيرة التي يفقدها تكرر الأسانيد عند كل جزئية سبكها وتسلسلها الزمني
والسرد المتتابع للأحداث.
ويرى
الدكتور الدوري أن أسلوب عروة في التأليف بسيط، بعيد عن الإنشاء في حين أن نظرته
واقعية صريحة وخالية من المبالغات، وقد مكنته منزلته الاجتماعية من الحصول على
معلومات تاريخية من مصادرها الأولية وخاصة من عائشة ومن آل الزبير أسرته.
وتناول
بالكتابة الأحداث المتعلقة بــ:
1 ـ بعث الرسول ونزول الوحي، وبداية الدعوة
وموقف قريش من المسلمين
2 ـ الهجرة إلى الحبشة وأسبابها.
3 ـ ازدياد
مقاومة قريش للدعوة وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
4 ـ تحدث
عن المغازي.
5 ـ رسائل
النبي إلى الجهات المختلفة.
6 ـ الفترة
الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه
وسلم .
ولم يقتصر عروة على المغازي بل تعرض لفترة
الخلفاء الراشدين، فتحدث عن حروب الردة في خلافة أبي بكر وعن حروب الشام، وعن
مواضيع أخرى جاءت في رسالة عبد الملك بن مروان له.
ولكن الروايات التي وصلتنا
عن عروة قليلة مبعثرة ولا تمكننا من الحصول على فكرة واضحة عن مغازيه أو عن الهيكل
الذي انتظمت فيه رواياته. بالإضافة إلى أن الدراسات حتى في المغازي كانت أعمالا
جماعية، وفعاليات الأفراد تكون جزءا من مدرسة، وكل واحد من حملة العلم يضيف
دراساته وبحوثه إلى دراسات أساتذته وبذلك يحفظ علم المدرسة التي ينتمي إليها ويضيف
ما وصل إليه . ومن طبقة عروة أيضا
من أبناء الصحابة.
2) ـ إبان بن عثمان بن عفان:
(20هـ ـ 105هـ )
اهتم برواية المغازي التي رواها عنه مالك بن أنس وابن سعد والطبري. قال ابن سعد في المغيرة بن عبد الرحمن " ثقة قليل الحديث إلا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من إبان بن عثمان فكان كثيرا ما تُقرأ عليه ويأمرنا بتعليمها ".والملاحظ أن كتب السيرة مقلة في الرواية عن إبان بن عثمان ولعل ذلك راجع إلى أنه لم يرزق التلامذة الذي يقومون بنشر علمه من بعده." ويبدو أن إبان بن عثمان يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي ومنهم أيضا:
3) عاصم بن عمر بن قتادة
(ت.119هـ ):
وهو من الأنصار، إمام ثقة
ولم يتكلم فيه أحد بجرح.جمع المغازي وحدث
بها، لما رواه بن سعد قال:" كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير .أمره
عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة ففعل
" وظل في المدينة يروي إلى أن وافته المنية بها. أما الراوية الإخباري المعاصر
لهؤلاء والذي كان أكبر شأنا وأطول باعا، وأقوم قيلا فهو الإمام.
4) محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري (50هـ ـ 124هـ):
هو مؤسس المدرسة التاريخية
في المدينة والشام على سواء، أخذ العلم عن الجهابذة الكبار منهم أستاذه عروة بن
الزبير، ولكنه لم يقتصر في رواية المغازي عليه.
وقد اشتهر الزهري كمحدث
وفقيه بالإضافة إلى كونه مؤرخا قال عنه الطبري " كان محمد بن مسلم الزهري
مقدما في العلم بمغازي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأخبار قريش والأنصار ورواية أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه" والزهري أول من
استجاب لطلب الخليفة عمر بن عبد العزيز فدون له السنن في دفاتر ثم وزع الخليفة على
كل أرض له عليها سلطان دفترا، إلا أنه لم يسلم من اتهامات وجهها إليه بعض الفرق
وأعداء الإسلام، فاتهمه بعض الشيعة بالسيْر في ركاب الأمويين وإرضائهم بوضع ما
يروق لهم من الأحاديث التي تثبت دعائم ملكهم وترد على خصومهم، وقد تلقف المستشرقون
هذه الأفكار وبنوا عليها أبحاثهم التي انتهت بنتائج ليست لها في الصحة نصيب إنّما
هي من قبيل المراجم والظنون والأوهام.
وقد قام الزهري ببحث واسع عن روايات المدينة
وأحاديثها، وكان يكتب كل ما يسمع من أحاديث، وتبدأ خطته بالكتابة عن حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم قبل الإسلام وانتقل إلى دور الرسالة فتحدث عن الفترة المكية من بدء
نزول الوحي إلى بيعة العقبة، ثم الفترة المدنية من الهجرة فالمغازي والسرايا، ثم
رسائل وسفارات الرسول إلى هرقل وكسرى، ثم يشير إلى حجة الوداع والمرض الأخير
للرسول ووفاته وأثر ذلك. بالإضافة إلى أنه
كتب في الأنساب وفترة الخلفاء الراشدين والأحداث التي وقعت فيها .وإذا كان عروة بن
الزبير رائد علم التاريخ فإن الزهري هو مؤسس المدرسة التاريخية في المدينة. وقد تابع جهد
الزهري من بعده تلاميذه من أبرزهم:
5) موسى بن عقبة الأسدي
المدني ( 55هـ ـ 141 هـ ):
عاش في المدينة، وكانت له في
مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم حلقة علم يمنح فيها كذلك إجازا ته العلمية، وكان
جلُّ اهتمامه مؤرخا متّجها إلى مغازي الرسول والخلفاء الراشدين وقد دونّ كذلك
أسماء المهاجرين إلى الحبشة وأسماء المشتركين في بيعتي العقبة. وقد استند بالدرجة
الأولى إلى الزهري، وهو من الثقات المتخصصين في فن السيرة والمغازي كان الإمام
مالك يثني على مغازيه ويوصي بها فيقول: " عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه رجل
ثقة طلبها على كبر السن ليقيد من شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكثر
كما كثّر غيره".
وكانت مغازي موسى بن عقبة
معروفة متداولة إلى عصور متأخرة قال الذهبي في وصفها:"وأما مغازي موسى بن
عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير سمعناها، وغالبها صحيح، ومرسل جيد لكنها مختصرة
تحتاج إلى زيادة وبيان وتتمة ". وقد اعتمد البخاري
مغازيه في صحيحه.
ومن أبرز تلاميذ الزهري
أيضا:
6) محمد بن إسحاق (85 ـ
150هـ ):
ولد بالمدينة المنورة، ثم
رحل إلى الإسكندرية سنة 115هـ حيث حضر دروس يزيد بن أبي حبيب (ت128هـ ) في علم
الحديث وعاد بعد سنوات إلى مسقط رأسه، ثم رحل إلى العراق واتصل بالمنصور وألف
كتابا في المغازي وصل إلينا مختصرا في سيرة بن هشام . وهو ينقسم إلى
أجزاء ثلاثة: المبتدأ والمبعث والمغازي فعرض في القسم الأول لتاريخ الرسالات قبل
الإسلام، وفي القسم الثاني لحياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى السنة الأولى للهجرة، وفي القسم الثالث
للدور المدني في السيرة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم قال فيه الإمام الزهري:
" لا يزال بالمدينة علم جم مادام فيهم ابن اسحق " . وقد استطاع ابن اسحق
أن يجمع في تآليفه بين أساليب المحدثين والقصاص فجمع بين الأحاديث والروايات
التاريخية والإسرائيليات والقصص الشعبي مع كثير من الشعر الصحيح والموضوع، ومصادره
كثيرة التنوع وتبلغ 114شيخا. ولكن هذا التقصي خلق له بعض المصاعب. وتظهر في سيرته
ميوله السياسية والدينية .فلم يكن هواه مع بني أمية ولكن مع التشيع كما كان قدري
الرأي. ويعلق هاملتون جب على مغازي ابن اسحق بأنها كانت ثمرة تفكير أبعد أفقا
وأوسع نطاقا من تفكير سابقيه ومعاصريه لأنه نزع فيها لا إلى تدوين تاريخ النبي
فحسب بل تاريخ النبوة بذاتها فوحدة الفكر التاريخي ظاهرة فيها.
وقد كون ابن اسحق مدرسة في
السيرة تكاد تكون مستقلة في منهجها عن مدرسة أهل الحديث، وكان من أبرز أتباعها.
7) محمد بن عمر الواقدي
الأسلمي (130هـ ـ 207هـ ):
ولد بالمدينة ونشأ بها وطلب العلم عن شيوخها،
يقول عنه الذهبي أنه: " جمع فأوعى وخلط الغث بالسمين والخرز بالدر الثمين
فاطّرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم "وقف علماء الجرح
والتعديل من الواقدي مواقف متباينة بين موثق له وقادح في عدالته ولكنّهم انتهوا
جميعا بالاعتراف له بمعرفته بالمغازي والسير.
وقد ذكر الذهبي في ختام
ترجمته قوله: " وقد تقرر أن الواقدي ضعيف يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ
ونورد آثاره من غير احتجاج ..".
وعلى أية حال فإن علم
الواقدي وتبحره في المغازي والسير طبقت شهرته الآفاق وسارت بكتبه الركبان .وقد
تفرّد بروايات لم يروها غيره. فقد كان محققا للوقائع ولا يعتمد على مجرد النقل
وإنما كان يعاين المواضع بنفسه وفي هذا يقول: " ما أدركت رجلا من أبناء
الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم، إلا سألته هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن
مشهده وأين قتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع
فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه ".
لف الواقدي عددا كبيرا من
الكتب في القرآن والحديث والفقه والتاريخ منها كتاب " التاريخ الكبير "
وكتاب " الطبقات " و" السيرة " وعدد من الرسائل في أخبار مكة
وبيعة السقيفة وسيرة أبي بكر والردة، ويوم الجمل، وصفين، وفتوح الشام، وفتوح
العراق وضرب الدنانير والدراهم، ولم تصل إلينا من هذه الكتب إلا مقتطفات في كتب
متأخرة. أما الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من مؤلفات الواقدي فهو كتاب "
المغازي ".
ويصف الدكتور شاكر مصطفى منهج الواقدي في
المغازي فيقول: " يبدو الواقدي في المغازي أكثر ارتباطا بأساليب مدرسة
المدينة، وأكثر دقة من ابن اسحق، لم يهتم كابن اسحق بالفترات السابقة للإسلام ولا
بالعصر الجاهلي وركزّ همه في السيرة ومنهجه في العرض منظم منطقي ... يذكر مصادره
الأساسية وهي25 اسما. وتواريخ المغازي ثم يدرسها بالتسلسل الزمني ويدقق في تحديد
التواريخ ويبحث عن نصوص الوثائق ويستعمل الإسناد بدقة على المحدثين ويقتبس من
الشعر، ولكن في قصد لا يبلغ حدود ابن اسحق، ويدمج بعض الأخبار في سند جمعي واحد
يستطيع استيفاء التفاصيل، ويهتم بتحديد المواقع الجغرافية حتى لقد بلغ من حرصه في
ذلك أن زار بعض تلك المواقع بنفسه، وبالرغم من ميوله العلوية فإنه كان بعيدا عن
التعصب لدرجة اتهمه فيها ابن نديم بالتقية، ولكن الشيعة لا يعدونه في رجالهم، وقد
بلغ بمراقبته رأي الناس في علمه أنه كان يأخذ عن ابن اسحق كثيرا، وقد يمتدحه ولكنه
لا يصرح باسمه أبدا فيما يأخذ عنه لموضع ابن اسحق من الريبة في المدينة ".
وإذا كان أهل الحديث لا
يقبلونه كل القبول فالمؤرخون يوثقونه. أما المستشرقون فيرون فيه بسبب تدقيقه
الزمني الجغرافي واعتماده الوثائق المؤرخ الأول. وقد ختم مدرسة
المدينة تقريبا تلميذ الواقدي .
8) محمد أبو عبد الله محمد
بن سعد ( 168هـ ـ 230هـ ):
صحب الواقدي المؤرخ فعُرف
بكاتب الواقدي، عاش حقبة من الزمن في المدينة ثم عاش في مدن أخرى، ويبدوا أن سعداً
عرف الواقدي في بغداد وظل أستاذه الأول وعمدته في كتابة سيرة النبي¹بلا منازع. ولئن كان التجريح قد تناول أستاذه الواقدي فإن ابن سعد
كان ثقة في نظر علماء الجرح والتعديل وإن كانوا قد عابوا عليه رواياته عن الواقدي
والكلبي والإكثار منها.
وقد حفظ لنا من كتبه كتاب
" الطبقات الكبرى " وفيه أخبار النبي صلى الله عليه وسلم حيث وضع الخطوط الأخيرة لهيكل السيرة مع
الاهتمام بصورة أقوى بسفارات النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد توسع في الحديث عن
شمائله وفضائاه وعن دلائل نبوته وجعل ذلك بابا أصبح نموذجا لأدب الشمائل والدلائل
فيما بعد.
ويعتبر ابن سعد آخر جامعي السيرة من المتصلين بالمصادر الأولى وثاني مؤلف بعد ابن اسحق وصلنا كتابه عن السيرة والطبقات كاملا ولن يأتي بعده مؤلف يأتي بجديد فيها، وأسلوبه التاريخي. رغم أنه يحمل الملامح التي يحملها السابقون له إلا أنه يتميز بملامح تُّميزه عن غيره. فيمتاز ابن سعد بأنه يذكر النص الكامل لكثير من الوثائق الأصلية، ولا ريب في أن كتابة مثل هذا المعجم التاريخي في تراجم النبي وأصحابه والتابعين من بعدهم تؤلف حلقة جديدة في الوصل بين علم الحديث وبين الرواية التاريخية، وقد نشرت الطبقات الكبرى لابن سعد في ليدن بين سنتي (1904 ـ 1928 ) على يد المستشرق "إدوارد سخاو".
ثالثا: المدرسة العراقية:
من المعروف أن المسلمين لما فتحوا العراق مصروا
الأمصار وخططوا المدن وكان ذلك زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنشئت المدن في بادئ الأمر على أنها حاميات
عسكرية ثم تطورت إلى أن أصبحت مدنا كبيرة اختلطوا فيها مع السكان الأصليين الذين
تابعوهم دينا أو تملقا. وقد حمل العرب الفاتحون معهم مواريثهم القبلية وفكرهم
البدوي إلى المواطن التي استوطنوها إضافة إلى الأمجاد التي حققوها عن طريق
الفتوحات الإسلامية التي صارت هي بدورها أياما يرويها لاحق عن سابق، مع الشعوبية
التي طغت بين عناصر الفرس في العراق إلى جانب تشجيع الأمويين لدراسة الأنساب
والأخبار. و كان التنافس في البداية بين البصرة والكوفة ثم بعد ذلك بغداد وواسط .و
ظلت هذه الأمصار تنضح بالفكر القبلي الذي يعكس الروح التي كانت سائدة حينئذ مما
جعل صبغة التدوين التاريخي تكتسي روحا قبلية واضحة.
غير أنه يجب التأكيد على
مسألة مهمة وهي أن الإخباريين في هذه المرحلة أبدوا اهتماما وعناية بفكرة "
الأمة" هذا المفهوم الجديد الذي جاء به الإسلام، وأثّر هذا بدوره على أسلوب
ومنهج مؤرخي المدرسة التاريخية في العراق، لذا اهتم الإخباريون بأخبار الشام
والحجاز واليمن إلى جانب اهتمامهم بأخبار العراق. ومن الجدير بالذكر أن الاتجاه
الإسنادي الذي ظهر في المدينة المنورة ما لبث أن بدأت آثاره تبرز على طبيعة
الكتابات التاريخية في الأمصار الأخرى ومنها العراق. حيث أصبحت الأسانيد تتقدم
الروايات التاريخية مما يعكس الأمانة العلمية والصدق والتواضع عند المؤرخين في ذكر
مصادر الروايات التي أوردوها.
فقد حفظت لنا وبأمانة أسماء المؤرخين الرواد
الذين عاصروا الأحداث التاريخية أو كانوا قريبين منها. كما وأنّها تظهر اتساع نطاق
التدوين التاريخي في العراق من خلال تشعب وتعدد مصادر الروايات التاريخية. وهذا
يشير إلى ظاهرة عامة في التطور الثقافي التاريخي وهي ظاهرة الجمع لعدة روايات
تاريخية .فكان الإخباريون والرواة هم مؤرخينا الأوائل.
والواقع أن استخدام المؤرخين
للإسناد والتزامهم به لم يكن بنفس الدرجة والدقة التي استعمله بها المحدثون. وذلك
لما للحديث من مكانة في الشرع بوصفه المصدر الثاني للتشريع ونصوصه يترتب عليها
أحكام شرعية مما أدى إلى بعض التساهل في قبول الروايات والأخبار التاريخية التي لا
علاقة لها بالحديث. وهذا ما جعل الأحداث الإسلامية تروى في شكل قصص " الأيام
" ويظهر ذلك عند سيف بن عمر، وعوانة بن الحكم وأبي مخنف .رغم حرصهم على إيراد
القصة متسلسلة في كتاباتهم .. ولم تصلنا مؤلفات هؤلاء الإخباريين الأولين. إلا ما
وصلنا من مقتطفات عن طريق المؤلفات التاريخية الكبيرة عند الطبري والمسعودي
والبلاذري وغيرهم. ويأتي على رأس هؤلاء الإخباريين.
1) ـ أبو الأحنف لوط بن يحي
( ت 157 ):
وهو إخباري كوفي مهتم بالأنساب ذكر له ابن
النديم حوالي أربعين مؤلفا من التراجم التي استخدمها المؤرخون. كتب في الردة وفتوح
الشام والعراق وصفين والجمل وأحداث العراق خلال العصر الأموي من ثورات ومعارك. قال
أحمد بن الحارث بن الخزار: " إن العلماء قالوا أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها
وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز
والسيرة، وقد اشتركوا في فتوح الشام ".
وقد اعتمده الطبري كثيرا في أحداث العراق، وإن
اعتبره المحدثون ضعيف الإسناد بسبب تسامحه فيه ذا ميول شيعية. قال يحي بن معين
" ليس بثقة " وقال مرة " ليس بشيء " وقال الدار قطني
"ضعيف " وقال ابن عدي " شيعي محترق، صاحب أخبارهم " وقال أبو
عبيد الآجري " سألت أبا حاتم عنه فنفض يده وقال أحد يسأل عن هذا".
2) ـ عوانة بن الحكم (ت174هـ):
من أهل الكوفة كان عالما بالأخبار والآثار
والشعر والنسب وكان فصيحا ضريرا، روى عن
كثير من التابعين ، وروى عنه الأصمعي،
والهيثم بن عدي، هشام والكلبي، وأكثر عنه المدائني، التزم موقفا حياديا بين
الأمويين والعلويين.
وله مصنفات منها كتاب "
التاريخ " وإذا صح هذا العنوان كانت هذه هي أول مرة يظهر فيها الاسم بمعنى
التاريخ كعلم. وقد تناول فيه أحداث التاريخ الإسلامي في القرن الأول الهجري، وله
كتاب " سيرة معاوية وبني أمية " وهو بدوره أول كتاب يخصص لخليفة ولأسرة
حاكمة في الإسلام .
3) ـ سيف بن عمر التميمي
(ت180هـ ):
وهو كوفي إخباري. صاحب كتاب " الردة
والفتوح " اعتمد في مادته الإخبارية على قبيلته تميم وخاصة ما كان منها
متعلقا بفتح العراق.
اعتمده الطبري في أخبار
الفتوح، وذكر رواياته في الفتنة، وقد أكثر عنه بهذا الإسناد " كتب إلى السري
عن شعيب عن سيف بن عمر " أو " حدثني السري عن شعيب عن سيف بن عمر "
ومجموع مروياته في الطبري مائتين وست وستين رواية. يصفه العلماء بقولهم
" ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ ".
4) ـ نصر بن مزاحم بن سيار (ت
212هـ):
وهو إخباري من أهل الكوفة .أحد علماء الشيعة
ومؤلفيها . ويعده أكثر المؤرخين والمحدثين غير موثوق به .قال العقيلي: " شيعي في حديثه
اضطراب وخطأ كثير، وقال أبو حاتم " زائغ الحديث متروك " وقال العجلي
" كان رافضيا غاليا " وقال الخليلي " ضعفه الحفاظ جدا " وقال
أبو خيثمة " كان كذابا " ، وقد دارت مواضيع
كتاباته حول وقعة " الجمل"
و"صفين"، و"مقتل الحسين " و" أخبار المختار
" جاء أسلوب كتاباته مثل أسلوب قصص الأيام.
5) ـ علي بن محمد المدائني
(135 ـ 225هـ ):
ولد بالبصرة وشب فيها ثم سكن المدائن وانتقل عنها قاصدا بغداد إلىأن توفي بها. وهو إخباري حافظ إليه تصل دراسات الإخباريين قمتها، لكثرة جمعه، ووثوق أخباره، وقلة المطاعن فيه. قال الذهبي: " كان عجبا في معرفة السير والمغازي والأنساب وأيام العرب مصدقا فيما ينقله عالي الإسناد ". وقال ابن معين: " ثقة، ثقة، ثقة " .
وقال أبو العباس النحوي
" من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام
فعليه بكتب المدائني " . وقال الطبري "
كان عالما بأيام الناس صدوقا في ذلك.
عدّ له ابن النديم صاحب الفهرست 239 كتابا
ورسالة، ويدل هذا القدر الكبير من الرسائل والكتب على إحاطته بموضوعات التاريخ
الإسلامي، ويظهر أنه اتبع أسلوب المحدثين في نقد الروايات وبذا صار يتمتع بثقة
أكبر من أسلافه، كما استفاد من روايات البصرة والمدينة وجاء بأخبار أوفى وأكثر
توازناً ممن سبقه في الموضوعات والحوادث التي تناولها.
وقائمة كتب المدائني تجعله
أول المكثرين من التأليف في الإسلام. فقد كتب في موضوعات كثيرة مثل أخبار قريش
وأخبار النساء، وأخبار الخلفاء، ومن نسب إلى أمه، وأخبار الشعراء، وقضاة البصرة،
وقضاة المدينة، وضرب الدراهم والصرف، وكتاب مكة. والرهان ..."

تعليقات
إرسال تعليق