القائمة الرئيسية

الصفحات

التواصل بين النُخَب المغاربية ودورها في حركات التحرر

 

التواصل بين النُخَب المغاربية ودورها في حركات التحرر






لقد استفادت النخبة المغاربية المعاصرة التي تصدرت النهضة من الموروث الثقافي الغزير، ولكن الظرف التاريخي واصطدامها بالظاهرة الاستعمارية واطلاعها على الإنتاج الغربي  جعلها تعرف نصا ولغة ورمزية من نوع آخر ومن ذلك الدراسات الاستشراقيّة والنّقد الثقافي والمناهج النقديّة المستحدثة لدى الغربيّين، ورغم المزالق المحتملة عن هذا التلقي للنص وما يحمله من دلالات وفهم خاطئ للاصطلاحات والترجمة للأفكار ، فإنه من دون شك غذى المنظومة اللغوية والفكرية والثقافية بالجديد من تجربة الآخر في عالم المفاهيم والمعايير . ورغم حضور ثنائية القبول والرفض باستمرار وظاهرة التقليد إلا إن هذا الزخم من التلاقح للكلمات والمعاني والأفكار من جراء التلقي فإنه ساهم في صناعة المعاني وتوليدها وإبداع أشكال التعبير الجديدة .ومظهرا للانفتاح على خطاب الآخر والقابلية للتجدّد والحياة . ومن ثم كان للنخبة المغاربية دورا مهما في تطوير اللغة والفكر انطلاقا من إحياء الموروث والتلقى من الثقافة الغربية وبالتالي عملية التجديد في المفاهيم وحتى القيم والمعايير. والقائمة طويلة من الذين كانوا ضمن هذا السياق : مالك بن نبي ، محمد مزالي ، الجابري ، التميمي ، علال الفاسي ....وغيرهم

وفي هذا الإطار نود الوقوف على ظاهرة التلقي في البيئة المغاربية .واستنطاق درجة التأثر بالنص واللغة والمفاهيم من قبل النخبة التي طفت على سطح الكتابة والفكر، وكان لها حضورا بالقلم وفي المنابر الفكرية والسياسية المعاصرة لها . فماهو التأثير الحاصل على مستوى هذه النخبة ؟ وهل وظف ذلك لصالح مجتمعاتها ؟

ونعتقد أن الوصول لمعالجة تقربنا من هذه المقاربة لابد من طرق النقاط التالية :

ـــ  النخبة المغاربية وتكوينها المزدوج ـــ طبيعة التلقى لدى النخبة المغاربية المعاصرة ــــ ظاهرة التأثر بالتلقي ومجالاتها: الأدبية، السياسية، الفكرية ـــ  التلقي ودوره في التجديد والإبداع والإنتاج الفكري ـــ مواطن النجاح ومخاطر التلقي.

       ويعتبر التواصل أساس التلقي الثقافي والمعرفي الذي تتفاعل فيه الشعوب ، ولذلك استفادت النخب المغاربية من التواصل مع الغرب واستفادت أيضا من التواصل فيما بينها  وتم نقل مظاهر الحياة والمعارف واكتساب اللغات وما تحويه من أفكار وإيحاءات وصور وسيميائية ، ومن هنا فالتواصل صنع حتمية التلقي المستمر للنصوص الأدبية والتاريخية بما احتوته من دلالات وتأويل وإعادة بعثها في ثوب جديد من الأفكار.


دور اللغة في الاستيعاب والتلقي الثقافي:


علينا أن ننطلق من أن اللغات العالمية كلها لغات تمدن ، وهي في الحقيقة لغات متكاملة ، وتكون متمدنة بقدر قدرتها على استيعاب الترجمة من اللغات الأخرى ، فعندما أخذ أجدادنا يترجمون من الإغريق والفرس والهنود إلى لغة الضاد إنما كان ذلك تكييفا للغتهم إلى العالم المعاصر لهم . ومكنوها من ذلك العصر بالطرق التي تستلزمها الترجمة فنقلوا لنا العلوم الطبيعية والمنطق وهم بذلك ساهموا في تكوين لغة مدنية استوعبت المعلومات الموجودة عند الآخرين. وقد يتساءل أحد عن قدرة اللغة العربية على الاستيعاب ، فنقول أنه ليس للغة حقل محدود وهو يتطور كلما ساهمت النخبة المنتجة للمعرفة في تطويرها ، ومن أهم الروافد المغذية الترجمة من اللغات الأخرى ، وأحيانا نقل المعرفة في شكلها الأدبي أو العلمي أو الفلسفي الفكري يوسع الأفق اللغوي وينقل المعرفة للبلد الأصلي .

 وهذه الظاهرة استفادت منها بلدان المغرب العربي في القرن العشرين بشكل واسع بحكم أن نخبها المتعلمة خالطت وترجمت وعاشت في الأوساط الأوربية فكان أن عددا معتبرا ممن ارتقى إلى مصاف الإنتاج المعرفي الأدبي أو الفكري  أو العلمي قد حول الكثير منها إلى المجتمعات المغاربية في شكل أفكار أو مكتوب ، فكان نصيب فئة هامة من المتلقين أن اطلعت على العالم الآخر وتذوقت الفنون والآداب وتعرفت على علوم المجتمع الأوربي . وإذا كانت هذه الأمور تبدو بسيطة ولكن مع التراكم التاريخي وتجميع الرصيد الهام لنشاط وإنتاج النخب نجد له الأثر البين في المجتمع المغاربي ، ويظهر هذا على مستوى سهولة الاندماج في فهم حضارة الآخر وفي الخطاب اليومي وفي توسيع دائرة المصطلحات اللغوية المتداولة ، وفي هذا الأمر ثراء للتفكير واللغة وتوسيع المدارك إلى المنظومات الأخرى في عالم القيم والسلوك والتفكير والعلوم ، ومن خلال ذلك تدرك النخب ومن بعدها عامة الناس الهوة الموجودة بين البلد الذي يعيش فيه والعالم الآخر. وهنا المثال واضح بالنسبة للبلدان المغاربية التي وقفت فيها النخبة من الرعيل الأول في مطلع القرن العشرين على الهوة الموجودة بين بلدانها والمجتمع الأوربي ، ورغم حالة التذمر من الظاهرة الاستعمارية لكنها كانت تتغذى في وعيها بالرغبة الجامحة في إدراك حالة التطور التي وصلت إليها أوربا ومعجبة بالإنتاج المعرفي الضخم . وهو استفزاز للعقول من أجل المحاكاة والخروج من الدائرة المحدودة ، وتفتيق القدرات العقلية ، وكان التعبير عن هذا الإحساس بالدعوات المتعددة من هذه النخب إلى الخروج من الجمود العقلي ، وتفعيل النظر والفكر في الأشياء ، والاستفادة من الموروث الثمين وإحياء التراث بالشكل الإيجابي الذي يجعلنا نستفيد منه ونعمل على تفعيل العقل في النقل ، ونوظف المنهج التجريبي الغربي في عالم العلوم . وباختلاف التوجهات فقد كان هناك شبه إجماع على الاستفادة من المناهج الأوربية، وعلى نقل العلوم واستعمال الترجمة للغة العربية، والتطلع إلى تعلم اللغة اللغات وخاصة الفرنسية ـ بحكم الواقع المعاش ـ حتى نفهم العلوم والقوانين. وهذه الدعوات كانت سلوكا ممارسا من قبل البعض .ومنهم من دعا إلى ذلك ، وتقاربت الأقطار المغاربية في هذا المجال من تونس إلى الجزائر والمغرب ( محمد علي باش حامبة، الثعالبي ، توفيق المدني ، ابن باديس ، فرحات عباس ، ابن جلول، الابراهيمي ، الفاسي ، ابراهيم الكتاني ، الوزاني ....) .

وبالتالي فهذا الجيل الذي توالت بعده أجيالا سارت على نفس النسق في التفكير والمنهج جعل المنطقة تتلقى أفكار وتخالط حقول معرفية كانت مجهولة ، ونقلت هذا الرصيد إلى مجتمعاتها ، ولذلك نلاحظ أن هذا التلقى قد سرع وتيرة التفاعل مع الحضارة الغربية الأوربية فتملكوا اللغة الفرنسية وإجادتها ونقل معارفها للعربية، واكتساب أساليب التواصل مثل الصحافة التي كانت فضاء جديدا على المجتمع المغاربي وباللغتين العربية والفرنسية ، ويعتبر السجال الذي  شهدته الصحافة قد أنضج الأفكار وطور أساليب الخطاب الموجه للعربي والمعمر الفرنسي واثبت أن الإنسان المغاربي له من القدرات التي تمكنه من التفاعل مع أساليب الحضارة الأوربية . ويترجم ذلك بلغته حرفا وتفكيرا .

ونعتقد أن النخب المغاربية كانت على صنفين : الأول شباب مثقف باللغة الفرنسية ومتخرج من مدارسها ، وهو معجب بآدابها ويسعى لأن يجعل من لغة المستعمر أداة بعث ووسيلة للحصول على الحقوق واعتقدوا في اللغة الفرنسية التقدم والتطور والرقي  بينما نسبوا للغتهم الجمود والتأخر والعجز : الثاني متخرج من الزيتونة أو المدارس الإصلاحية الجزائرية أو القرويين واتجه للدفاع عن العربية كهوية عن الشخصية العربية والإسلامية، وعاشت هذه النخبة مرحلة صراع وتجاذب في فرض ذاتها على الساحة والفكر والكتابة.

وقد أبصرت بعض النخب المثقفة وخاصة المعربة أن اللغة هي المجال الذي تنموا فيه المواهب، وهي الوعاء الذي يمثل الهوية، وإذا أردنا مواكبة العصر فلابد من صب هذا العصر بكل ما أنتج من علوم وأدب وفن في اللغة العربية. وتكون معاصرتنا مرهونة بقدر ما نستطيع ترجمة العلوم وفلسفتها في وعائنا اللغوي. لأن العصر لا يقتصر على شعب واحد، فكل دولة لها معاصرتها واللغة تمثل الثوب الذي تلبسه هذه المعاصرة الماسكة لزمام الحضارة.

فالتاريخ يمثل لكل منطقة كالنهر المتدفق بالمياه منذ آلاف السنين ورغم تبدل الماء في كل لحظة لكن الثابت في هوية النهر هو الوجهة الدائمة لمجراه فكذلك اللغة العربية التي تبقى الوعاء الذي تصب فيه العلوم من مختلف اللغات لتصنع المعاصرة للشعوب الناطقة بها .  


التلقي الثقافي لدى بعض النخب المغاربية    

                                                                                                             1/  ملك بن نبي والمشكلة الثقافية


فهذا ملك بن نبي كرس حياته لدراسة الظاهرة الحضارية والعمل على فهمها وتحليل المشكلات واقتراح الحلول، وانطلق من استيعاب آراء أكبر المؤرخين والمفكرين وعلماء النفس في عملية البناء الحضاري. وقبل ذلك كان مقتنعا بقوة التركيب لعناصر الحضارة في جوهر الدين والصالحة في كل زمان ومكان وقدم مثالا كيف جعل من القبائل العربية البدوية وحالة الجمود والفوضى إلى عهد النظام والحركة والريادة .

       ومن الجدير بالذكر أن ملك بن نبي نبه إلى ضرورة إعادة الفاعلية للفكرة الإسلامية وفي نفس الوقت تكييف المعادلة الاجتماعية للإنسان المسلم وهنا يقصد المزاوجة بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي من جهة والتغيير الثقافي الجذري من جهة أخرى ، وركز على العنصر الأخير لأنه يطال الإنسان في تفكيره وعمله وتحديد أهدافه وعيا وإرادة   ووجهة .

وفعلا رأى بعض الدارسين أن الجهد والخطاب الذي كان أثناء الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي استطاع أن يوقظ النفوس ويفعل الضمير ويقوي العزائم مما دعم معركة التحرر ، ولكن بعد الاستقلال لم تستمر المسيرة بنفس العطاء والحرارة في معركة البناء والتشييد وإكمال عملية تطهير النفوس والضمائر والعقول من عوامل الانتكاسة . وهناك من دلل على هذا التوجه بأن الدول المحورية في العالم الإسلامي لم تستطيع أن تحدث إقلاعا نوعيا لأنها ركزت على العوامل الاقتصادية وتجاهلت القيم الإنسانية والمكونات الثقافية في عمل مشترك لإحداث نهضة شاملة. وأن كل محاولة تتجاوز العوامل النفسية والفكرية ومشكلة الإنسان الثقافية تبقى مجرد طلاء خارجي يزول مع أقرب عارض.

وبالنظر إلى مسار مالك بن نبي فهو الرجل العارف بالحضارة الأوربية وعاش بين أحضانها ولكنه بعد تجربة وتقييم طويل أعطى رأيه فيها موجها القارئ إلى المواطن الإيجابية والسلبية من تلك الحضارة. ونقف أن كلامه موجه إلى العالم الذي يسميه الكومنولث الأفروأسيوي .أو إلى شباب العالم الثالث منبها الشباب الأخذ بالجوانب المضيئة كالتقنية وحب العمل والاعتماد على النفس وتقدير العلاقة بين الإنسان والزمان والمكان. إنه يدعو العرب والمسلمين أن يكونوا منتجين للحضارة لا مستهلكين فقط .

ومن جهة أخرى فإن بن نبي في خضم الصراع الفكري وظاهرة التلقي المعرفي والخلل الحاصل بين الثقافة والمعرفة والخلط بينهما فالعلم حسب رأيه يعطي المعرفة ويعطي اللباقة والمهارة وفق مستوى اجتماعي معين ويعطي امتلاك القيم التقنية. أما الثقافة فإنها تعطي السلوكات على كل مستويات المجتمع  . وبالتالي فهما غير مترادفين ، فالثقافة تولد العلم دائما ، والعلم لا يولد الثقافة دوما ، ويرى فهم ذلك من الضروري حتى يتم وضع برامج للرقي بثقافة بلد ما إلى مستوى أعلى ، وفهم الظواهر الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية .  


      2/  بن باديس والتعامل الثقافي


ومن جهته كان بن باديس يحث على تعلم اللغات الأجنبية،   حتى يكون الإنسان ابن عصره ، ويكون ذلك السبيل هو الموصل للتحضر ، لأن الواقع يقول أن أوربا هي الماسكة بأمور المدنية ، والمنتجة والمصدرة ، فكتب يقول : " إن الذي يحمل علم المدنية العصرية اليوم هو أوربا ، فضروري لكل امة تريد أن تستثمر ثمار تلك العقول الناضجة وتكتنه دخائل الأحوال الجارية .أن تكون عالمة من لغات أوربا، والأمة التي جهلت جميع اللغات الغربية فإنها تبقى في عزلة عن هذا.

و من هذا الباب كانت اللغة الفرنسية ضمن البرامج التي تدرس في الجامع الأخضر ويقوم عليها بعض التلاميذ المتمكنين منها لزملائهم.   

                                  

    3/ علال الفاسي والبعد الفكري


ونجد علال الفاسي الذي جمع بين العمل السياسي والنشاط الفكري يحاول أن يسوغ نموذجا للبعد الوطني لدى المغاربة ، وأنه ينبع من التحام البعد النفسي والأرض بروح العصر ، لأن الوطنية أكبر من العرق البشري . ويصور الوطن العربي على أنه وحدة ثقافية وحضارية وجغرافية.

ومن دون شك أن الظروف التي صقلت علال الفاسي انطلاقا من تكوينه الديني القروي ، وخوض غمار السياسة والحزبية وطبيعة الصراع الذي كان يخوضه ضد الاستعمار والمنافي والتفاعل مع رجال السياسة والنخبة المغاربية  جعلته يعطي لأولوية التحرر الفكري عن طريق التعليم ، وما يقتضيه من تفعيل وسائل الهوية وعلى رأسها اللغة ،وهو بدوره كفيل بالتحرر الاقتصادي والاجتماعي من الاستعمار. ويضيف أن شعوب المغرب العربي تفاعلت لديها حاجيات التحرر مع حاجيات التطور فأدت إلى نهضة علمية وأدبية وعقلية جديرة بالتقدير مع ما لاقته من مضايقة استعمارية .لأنه يجب أن نخطوا الخطوة الثقافية بحركتنا ونستعمل الأسلوب الثقافي في دعايتنا في الخارج .


4/  محمد علي باش حامبة


فهذه الشخصية انتسبت إلى جامعة آكس أون. بروفانس الفرنسية وأحرز على  شهادة الدكتوراه في الحقوق وقد انخرط علي باش حامبة في الحركة الإصلاحية التي ظهرت إثر إنشاء الجمعية الخلدونية سنة 1896 ليدعم دورها بتأسيس جمعية قدماء تلاميذ المعهد الصادقى سنة 1905. أسس حركة الشباب التونسي والنادي التونسي.وجريدة Le Tunisien  لنقد السياسة الاستعمارية. كما أصدر علي باش حامبة جريدة أسبوعية ناطقة بالعربية سمّاها التونسي . ولما ضاقت السلطات الاستعمارية ذرعا بعلي باش حامبة وبنضالاته الوطنية وحماسه الفياض من أجل بعث حركة مناهضة للاستعمار،اتهمته بالانحياز لتركيا في صراعها ضد ايطاليا وبمساعدة ضباط أتراك على اجتياز الحدود الفاصلة بين تونس وليبيا ومساعدةّ المجاهدين الليبيين الذين كانوا يقاتلون الإيطاليين الذين غزوا بلادهم سنة 1911 بالذخيرة والعتاد وبعد تلك المحاكمة الجائرة والصورية غادر علي باش حامبة البلاد إلى اسطنبول بعد إقامة قصيرة في باريس قد يكون أصدر خلالها جريدة أسبوعية سمّاها فرنسا الإسلامية. وعلى الرغم من ظروف المنفى القاسية، واصل علي باش حامبة النضال ضد الاستعمار الفرنسي. وظل دؤوبا على ذلك إلى أن وافته المنية يوم 29 أكتوبر 1918 ،

ومن هذه السيرة المختصرة نقف على تكوينه الفرنسي لغويا ولكنه يمتلك البعد اللغوي العربي، والنضال الوطني المرتبط بالهوية ، فهذا الازدواج اللغوي كان زخما إضافيا في العطاء الفكري والثقافي الذي وظفه  في الدفاع عن المطالب التونسية وتملك الثقافة الحقوقية المطلبية .   

      

5/ عمر بن قدور والمثاقفة المغاربية


      فهذه الشخصية تملكت آليات اللغة العربية والفرنسية وأداة الصحافة التي تعتبر وسيلة وظفتها النخبة المغاربية للوصول إلى تحقيق أهدافها هي مكسب قادم من أوربا ولكن عمر بن قدور الجزائري سخر  اللغة والثقافة الفرنسية وما صاحبها من وسائل في خدمة قضايا المنطقة ، وعلى رأسها التناغم مع قضايا تونس  .

       فقد سال قلمه كثيرا عليها لما يربطه بها من وشائج النضال والصحافة والعلاقة مع أهل الفكر والحركة الوطنية بها، فنجده يهتز عند إلقاء القبض على زعماء النهضة بتونس في مارس 1912 أمثال المختار الكاهية، وعلي باش حامبة والسيد الصادق الزمرلي والسيد حسن قلاتي ، محمد نعمان الشاذلي درغوث، وعبد العزيز الثعالبي. إن هذا المصلح له ثقافة مزدوجة ولكنه يختلف مع النخبة المفرنسة في الجزائر وتونس بما يحمله من بعد عربي وإسلامي ولكن رغم ذلك يتحالف معهم في جبهة واحدة ضد الاستعمار لأنه يستهدف الجميع وأكد " وإن خالفونا في الرأي والنزعة.... نحزن كثيرا لخمودهم ونعد نكبتهم ضربة كبرى على آمال تونس في الارتقاء، وإلى الله مصير الأمور"

      فكانت تونس تمثل بعده الشعوري والحيوي في النشاط ونشر أفكاره وخاصة ما يربطه بأعلام الصحافة مثل الطيب بن عيسى الذي كان وكيلا للفاروق بتونس ومن أقلامها الأوائل إضافة إلى الصادق الرزقي، وتوفيق المدني، وحسين الجزيري وهذا الأخير انضم إلى جماعة التعارف الإسلامي لمسلمي شمال إفريقيا، ومن المعجبين بمشروع ابن قدور فسجل بقلمه " قام اليوم غيور الإسلام ، صاحب الفاروق يدعو إلى تكوين جماعة التعارف الإسلامي ، الجزائرية التونسية المغربية  فهل ترى لدعوته من تأثير على الأفكار، وتحريك للعقول ؟ ربما يستهين البعض باقتراحه وبعده مما يسطر ، فيقرأه فيتموج مع الهواء، وهو مشروع لو يبرز من حيز القول إلى الفعل  لكنت أنا الضمين بسعي السعادة لمسلمي شمال إفريقيا ، والتحاقهم بمن أدركوا كيف يكون تركيب الدواء " فهذا التناغم مع مشروع التعارف الإسلامي وإعجابه بمنهج الإصلاح الذي يقوده ابن قدور جعله يقدم نوعا من الالتزام على العمل لهذا المشروع ودعوته لدعم حركة الإصلاح وتوثيق الصلات مع القائمين عليه ونشر ذلك على صفحات الفاروق مصحوبا بصورته معتبرا ذلك حرصا منه على إنجاح مشروع التعارف الذي يوثق العلاقات الودية مع المصلحين والكتاب .ونفس الإحساس صنعه أبو اليقظان في لأوساط التونسية منذ أولى صحفه في 1926 فكان محل تناغم مع بعض الكتاب التونسيين مثل الهادي السنوسي ( من أصل جزائري ) الذي تجاوب معه قائلا :

إذا كان همي هو همك، فليكن*** عذابك في دور الكفاح عذابي

وليس لنا إلا الجزائر موطن *** ترابك فيها واحد وترابي      

     وكل هذه الأقلام تقريبا لها ثقافة زيتونية وإسلامية والملاحظ أن للفاروق جمهورا من القراء والمراسلين في تونس وأعلنت أنها في  " خدمة أمة شمال إفريقيا الإسلامية" .ولذاك فالعقاب الاستعماري طال كل من عمر بن قدور باعتقاله في الجزائر سنة 1915 وفي نفس الوقت اعتقل حسن الجزيري والمدني في تونس ويرجح أن تكون المراسلات التي وجدت بينهم سبب التهمة عند تفتيش منازلهم من قبل فرنسا.

       وهذا البعد المغاربي حمله على تبني كل قضايا شمال إفريقيا ومستجداته وخاصة حين وقف بقلمه ضد احتلال ليبيا 1911 ، والمغرب 1912 ، رافضا الاندماج والذوبان في كل أصناف دوائر الاستعمار مستهجنا شعارات التمدن والعدل التي ترفعها فرنسا إذ يصرح في 28 جويلية 1911 " فما لنا من رغبة في الاندماج بفرنسا ولا بغيرها من الأجناس وما لنا رغبة في نيل حقوق تجر علينا الويل والدمار ، أننا لا نريد من فرنسا أن تمن علينا بتمدنها وعدلها لأن لنا تمدنا وعدلا ، فصار كل شيء عندنا بعده مرا، وهل بعد ذوق العسل تذوق الحنظل" .


---------------------------------------------------

المصدر: ابوبكر حميدي، محطات في تاريخ الجزائر الحديث

تعليقات