القائمة الرئيسية

الصفحات

الأمير عبد القادر ودوره الإنساني

 

الأمير عبد القادر ودوره الإنساني






       إذا كانت الكثير من الكتابات تركز على البعد العسكري للأمير باعتباره قائد مقاومة فمن الجدير أيضا استقراء الجوانب الخفية التي مكنته من إثبات قدارته وطول مقاومته . إن القناعات الفكرية والثقافية والعرفانية والملكات العسكرية جعلت منه شخصية يحدد أهدافه وخطواته، والعمل على استيعاب أنصاره ، ويقدر حجم أعدائه، والالتزام بالقيم الإنسانية في التعامل مع معهم .  

       إن هذه المقومات هي التي كانت تتحكم في السلوك العسكري للأمير وليس العكس فقد اعتمد على لغة الحوار ومخاطبة الضمير، وحجة الإقناع ، ووضع الآخر عند شروط التزاماته ، وجسد تقليدا دبلوماسيا مبكرا في تاريخ الدولة الجزائرية . فعلى الصعيد الداخلي أمن جبهته بقوة علمه التي مكنته من الحوار والإقناع وتأييد القبائل له ، وهو الذي حمل قيما وجسدها في دولته .

وفي سجاله مع العدو الفرنسي كان واضحا وأبدى منظومة من القيم والتقاليد الدبلوماسية نرصدها في المعالم التالية :  

 ــ أنه وضع أسسا للحرب والسلام

ــ أنه قال : إنني أشد الناس رغبة في الحصول على  العافية وأشدهم بغضا لسفك الدماء بدون موجب شرعي

ــ كانت خطواته تمثل انتصارا للعقل على العاطفة

ــ كانت مضامين اتفاقياته ثمرة تدابير سياسية حكيمة ومناورات بارعة ، يكتنفها الصبر والمثابرة ويوجهها وفق كل مرحلة من مراحل مقاومته

وكانت لغة العقل والحوار وحنكته الدبلوماسية حاضرة حتى في منفاه فهو الذي عرف بوأد فتنة الطائفية في لبنان واعترف له بذلك العدو قبل الصديق ونال احترام الدول الأجنبية .

أننا أمام جدلية تحتاج إلى تفكيك عناصرها وتحليل مضامينها للوقوف على  القدرات العقلية وروح الاستيعاب والحوار مع أنصاره ، والملكات السياسية والدبلوماسية في الحوار وطول النفس مع أعدائه .وإثبات مكانته خارج بلاده .


البعد القيمي عند الأمير


       هناك جملة من العوامل المؤثرة في التكوين الفكري والسياسي للأمير عبد القادر من ما ارتبط بالبيئة والثقافة السائدة في عصره ، ومنها ما تخمرت لديه من خلال التكوين الديني والثقافي والمناخ السياسي ذي نشأ فيه . ولذلك نجده على تميز واضح  ممن عاصره ، فجمع بين البعد الروحي الصوفي العرفاني والسياسي الذي تملك لغة الخطاب السياسي والخطط السياسية وإدارة الأزمات الصعبة في ظل  الاحتلال . وفي نفس الوقت الرجل العسكري الذي صنعته الأحداث على محك التجربة .

       وقد أجمل البعض هذه العوامل في العامل الوراثي والعقلي، وعامل البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها.  وكان من نتاج هذه العوامل التي برز فيها إعمال العقل في النصوص الشرعية لدى الأمير والاصطدام بالواقع السياسي الجديد أن تولد فكرا جديدا جمع بين الروحانية والسياسة والعسكرية  .

       كما أنه سخر النسب الشريف والبيئة الصوفية القادرية لملئ  الفراغ الروحي في محيطه الاجتماعي الواسع بعد الفراغ الذي ساد في البلاد من خلال غياب سلطة الدولة ، وأعاد للأذهان وفي واقع الناس فكرة الرباط، وكانت معاني المجاهدة للنفس والصبر وغيرها من القيم الروحية التي تعلمها في كنف الطريقة القادرية ذخيرة مغذية له في بناء توجهاته الجهادية .

       ورغم أن الأمير قد ولد في بيئة عائلية صوفية طرقية لكنها كانت بعيدة عن الابتداع والخرافة . فقد عرف عن والد الأمير بوقوفه في وجه الطرقية المنحرفة عن أصل الشرع والسنة ، وقد سلك الأمير نفس النهج .وألف الأمير في التصوف كتاب المواقف الذي أظهر فيه التأثر بمحي الدين بن عربي الأندلسي وضمنه دروس التفسير للآيات والأحاديث التي ألقاها في دمشق. وإن كانت الأميرة بديعة الحسني الجزائري تنفي نسبة هذا الكتاب للأمير وقدمت الكثير من الحجج في الشكل والمحتوى ( نوع الخط بعد أن أخضعته لعدد من خبراء الخطوط ، ومحتوى المعلومات الواردة مثل معارضة الأمير لتعليم المرأة). ولكن يمكن أن تكون حصلت بعض التحريفات مع بقاء نسبة هذا الكتاب للأمير.

       وقد أظهر حربا على التيجانية ليس لخلاف سياسي فحسب ولكن للإمعان في الخرافة والبدع ، والتوظيف الفرنسي لهذه الطريقة في ترويض الشعب الجزائري وسخرت السلطة الفرنسية رجال الاستخبارات للقيام بهذا الدور على أحسن ما يرام.

       فقد برزت مواهب الذكاء والقدرة الفكرية والشجاعة والفروسية ، والقوة العقلية والإيمان القوي في وقت مبكر ، وهذه المواهب والقناعات والمكانة الاجتماعية والسياسية والدينية التي تزامنت مع وضع الاحتلال كانت تشكل مخاضا عسيرا في بناء هذه الشخصية من جديد . مما حمله على أن يكون في الواجهة ولابد أن يعمل على التوفيق بين المنطلقات والقيم التي تشبع بها وآداء الدور المنوط به ، وقد نعبر عنه بالمسؤولية الاجتماعية والدينية الملقاة على عاتقه . والدليل على سلامة التشبع الروحي والتفكير العقلي السليم أنه كان يمكن له أن يسلك الطريق الأسهل مثل التيجانيين  ولكن منظومة القيم الروحية والوطنية كانت أقوى من الجنوح نحو الطريق التيجاني .

       ونعتقد أن هذه المنطلقات عززت من الثقة بين مختلف الأطراف المتعاونة معه ، ومن جهة أخرى أن نشاطه الروحي والسياسي والعسكري تجاوز حدود البعد القبلي الضيق وهو ما أسس للبعد الوطني ووسع من هامش تحركه ، ولهذا طال عمر الثورة وأدركت السلطة الفرنسية هذا المنحى فقابلته تقريبا بنفس الإستراتيجية من حيث النفس الطويل والسجال العسكري والسياسي وكثرة المعاهدات ..

       إن الأمير استطاع صنع جسور الثقة مع المجتمع الواسع حوله من خلال قيم البيعة الأولى والثانية وتجسيد القيم الأخلاقية بين جنده  ، محاولا تقديم نموذج للدولة العصرية وتوفير الشروط اللازمة لها مما غذى البعد الجهادي بشكل متين.


التعامل مع الأجنبي


       رغم أن الأمير كان يعيش أجواء حرب ، لكنه لم يتخل عن منظومة القيم التي يحملها سواء في البعد السياسي أو الإنساني . حيث كان وفيا لالتزاماته بعد عقد المعاهدات مع العدو الفرنسي انطلاقا من أن المسلمين عند شروطهم ، بل كانت فرنسا هي تخرق محتوى هذه المعاهدات .

        ومن جهة أخرى أنه تعامل مع ملف الأسرى الفرنسيين وفق منظور الشريعة الإسلامية سواء من حيث التعامل وعدم التعرض لهم بالإساءة أو القتل ..وهو بذلك يحقق مبدأ الامتثال للشرع واحترام النفس الإنسانية ، وتقديم الصورة الحسنة للأسير ، ومن جهة أخرى أن هذا الأسير هو ورقة قوية استعملها الأمير لإنقاذ مئات الأرواح من الجزائريين المجاهدين الأسرى لدى الاستعمار الفرنسي، وإظهار قيمتهم عنده.مما يعزز ثقة المجاهدين فيه .

       ويمكن القول أنه سخر النسب الشريف والبيئة الصوفية القادرية لملئ  الفراغ الروحي في محيطه الاجتماعي الواسع بعد الفراغ الذي ساد في البلاد من خلال غياب سلطة الدولة ، وأعاد للأذهان وفي واقع الناس فكرة الرباط، وكانت معاني المجاهدة للنفس والصبر وغيرها من القيم الروحية التي تعلمها في كنف الطريقة القادرية ذخيرة مغذية له في بناء توجهاته الجهادية .


البعد القيمي في نسج العلاقات


       كان بناء العلاقات لدى الأمير قد راعي فيها عنصرين مهمين

الأول :التنوع بين الداخل والخارج مع مراعاة الحدود الشرعية والمصالح الوطنية

الثاني : الأخذ بالأسباب والأولويات في إقامة الحجة على الغير .

       ففي الحالة  الأولى نجد أنه نوع في علاقاته مع الإنجليز والمغرب والباب العالي ــ عن طريق حمدان خوجة  ــ وكذلك حاكم تونس وأرسل سفيرا له بفرنسا ( ميلود بن عراش ) وغيرها من العلاقات التي أثبت أنه بعيد الأفق وطموحا لكسر الطوق السياسي المضروب عليه ،ولكن المهم في هذا الأمر أنه كان يضع كل علاقة في نصابها الموزون كالالتزام بما اتفق عليه مع العدو الفرنسي عبر كامل المعاهدات إلا ما أقدمت فرنسا على خرقه ، ويتعامل مع ملك المغرب معربا عن ولائه له مقابل الدعم وإنجاح المقاومة ، وقد يكون وراء ذلك بعدا فقهيا.

       كما أن اتصاله بحاكم تونس في هذا الظرف أمر مهم ليس من الناحية السياسية والعسكرية فحسب ولن من باب إقامة الحجة على حكام المسلمين ، وأن الظرف يقتضي مزيدا من التنسيق والتعاون لأن العدو قادم على الجميع .وتعد هذه الاتصالات رسائل تحميل للمسؤولية وفتح باب المبادر مع ذوي القربى .

        أما العنصر الثاني والمتعلق الأخذ بالأسباب والأولويات في إقامة الحجة وخاصة مع مختلف القبائل وشيوخ الطرق الصوفية . فقد كان يتم عرض نفسه على هذه الزعامات والتعاقد على رفع راية الجهاد في وجه الكافر ، وأنه واجب الوقت ، ومن جهة أخرى يطلب من القبائل الولاء له مقابل الحماية والدفاع عنهم من العدو الفرنسي مقابل الزكاة والجباية . وما كان ليهاجم قبيلة أو زعيما إلا بعد أن استنفذ هذه الخطوات معهم .

       وكانت مواقفه مبنية على نتاج هذه العروض والاتصالات والتخيير بين الولاء للعدو أو تعزيز المقاومة أو على الأقل الوقوف على الحياد الذي لا يمنع ولاء القبائل للمقاومة ولا يدعم عدوا . ونقف على هذه النماذج في تعامله مع أتباع التيجانية ، أو أحد شيوخها الملقب بأبي حمار الذي هاجم المدية فانتقم منه الأمير وألحق به الهزيمة .

       ومن منطلق توسيع دائرة الرأي وإقامة الحجة على مختلف الزعامات والقبائل وخلق جسور التواصل أملا في تحقيق أكبر قدر من الوحدة الوطنية لتوحيد المقاومة، فقد نظم حملة من المشاورات والاتصالات مع الكثير منهم ، وخاصة مراسلة الأمير لأحمد باي طالبا منه الانضمام وتوحيد الصف . وربما كان الحدث المهم لاحتواء معظم القبائل تحت لوائه سنة 1838 حين عقد مؤتمرا جمع فيه معظم العناصر الوطنية من شيوخ وزعماء قبائل في منطقة بوخرشوفة قرب مليانة وكان هدف اللقاء : توحيد المقاومة ، الدفاع عن الحريات الإنسانية ، وحفظ الأنفس، والأخوة بين أبناء البلاد .

       وفي مرحلة تالية 1843 اغتنم الأمير فرصة ثورة الطرق الدينية . مثل ثورة بوبغلة في القبائل ، وثورة درقاوة في وهران ، وثورة بومعزة في منطقة الظهرة .واتصل بزعماء هذه الثورات للتنسيق معهم وإضعاف العدو ، ثم هاجم العدو الفرنسي في سيدي إبراهيم واسر فرقة عسكرية كاملة بقيادة مونتانياك ( بالغرب 1845 ) ولذلك عمدت فرنسا لمهاجمة منطقة القبائل .


قيم الحكم


       كان الأمير ابتدأ حكمه بإحياء تقليد إسلامي راعى فيه رأي أهل الحل والعقد من العلماء وزعماء القبائل ، ثم العامة من الناس وكان هذا ضمن البيعة الأولى والثانية ، وهذا السلوك السياسي وبهذه المرحل أعادنا إلى عهد أبي بكر الصديق والفاروق عمر.

       ومن شروط البيعة أنه عقد لا يحتمل الإكراه ، ولا إمامة إلا بعد البيعة ، وعقد برضا الأمة واختيارها ، ولا رضا بلا بشورى في أمر الإمامة وشؤون الأمة .ولا شورى بلا حرية . ونعتقد أن إحياء مثل هذه المفاهيم : الشورى والحرية والبيعة والاختيار وعدم التوريث مع تحمل أعباء الجهاد هي قيم غابت عن واقع ومفاهيم الأمة الإسلامية منذ أمد بعيد . ولاشك أن الأمير كان يعي أن القيام بأمر الجهاد وأعبائه في ظل انهيار الأمة وتغلب العدو يتطلب نفاذ القيم الشرعية إلى أذهان الناس حتى يحصل على ضروب السمع والطاعة والتضحية  .

        ومن جهة أخرى أنه كان يتقدمهم في الجهاد ويِؤمهم في الصلاة ، ويقدم لهم الدروس بعد العصر لشحذ هممهم ، وهو القاضي الذي يفصل في المظالم ، ونفس المهام أوكلا لخلفائه في المناطق . أما القضايا الكبرى كالحرب والسلم فيعرضها على مجلس الشورى للفصل فيها . وكان يوحي لأنصاره أنه لا يورث الحكم للأبناء على نمط الملوك " هذا المنصب الذي اخترتموني له لن يكون متوارثا وأرفض لقب سلطان أو ملك ".

       ومن هنا نجد أن الحكم في مفهوم الأمير هو نظام شوري مبني على الانتخاب أو الإجماع ، نافيا منهج التوريث ، والأنماط الملكية والسلطنة ، رافعا راية الجهاد . فكانت فيه مسحة لاستنساخ الحكم الراشدي بأسلوب عصري يحقق الواجب الشرعي القائم وهو أمر الجهاد والتحرير للبلاد .

       وكانت رمزية مجلس الشورى المكونة من إحدى عشر عالما منهم :( أحمد المحفوظي ، وأحمد بن الطاهر بن الشيخ المشرفي ، ومحمد بن المختار الورغي ، ومختار بن مكي الحاج ، وعبد القادر بن روكس ، وإبراهيم بن القاضي ، وأحمد بن الهاشمي ...) وكانت نفقات المجلس من بيت المال ، وكان الأمير هو الذي يرأس هذه المجالس ، وتعرض عليه حتى الطعون المقدمة وبالموازاة كانت هناك مجالس محلية في المقاطعات التي يرأسها خلفاؤه تمارس وظيفتها على المستوى المحلي ونعتقد أن مثل هذه الممارسات لها تداعياتها في أذهان العلماء والعامة في تكريس قيم الشورى والحرية والعدالة مما يعزز تعبئة الجميع للموارد البشرية والمالية لصالح المقاومة .

       وأحيانا كان الأمير يستشير حتى العلماء من القرويين أو الأزهر في بعض المسائل الشرعية . ومن المسائل التي أرسلت على يد عبد الله سقاط وعرضت على علماء القرويين : كيف تعامل القبائل المنهكة في المحرمات والعصيان ؟ كيف يعاقب الجواسيس والنصاب ؟ وماهي الأشياء التي لا يجوز بيعها للنصارى ؟ كيف يعاقب العاصي بالمال ؟ ما حكم  المتخلف عن الاستنفار للجهاد وماهي عقوبته ؟ وما ينبغي أن يفعله الإمام قبل أن يستنفر الناس ؟ ماهي الأمور التي يتم فيها الصلح مع العدو ؟ وماهي المصادر التي يسترزق منها الجيش عند نفاذ بيت المال ؟ ما حكم من ساكن العدو الكفور ورضي بالمقام معهم في ما لهم من البلاد والثغور؟

       وأثناء لجوء الأمير للأراضي المغربية ومحاصرته من قبل فرنسا وضغطها على الملك المغربي بإخراجه ومهاجمة الأمير ، الذي اضطر للدفاع عن جيشه وحوزته ، وقيل أنه استشار علماء الأزهر وأجازوه مقاتلة ملك المغرب بعد أن مرق من الدين 

       وفي ذات السياق لتقديره لأهل العلم ومعرفة الدور الذي يؤدونه في القضاء على الجهل وترسيخ القيم الشرعية الصحيحة ومعرفة العدو من الصديق ورفع راية الجهاد  فإنه نظم التعليم عبر المناطق التي هيمن عليها ووضع راتبا للمدرسين من الأوقاف . بل قيل أنه تسامح مع المثقفين والمدرسين حين ارتكبوا أخطاء لأنه من الصعب تعويضهم إن قضى عليهم . 

    واتخذ من الزوايا سندا لمقاومته من خلال التربية والعليم ومنبرا يدعوا من خلاله للجهاد المقدس،  بل كانت خيام العلم منصوبة في معسكرات الجيش لتتم بها حلقات الدروس والمباحثات. وكان الهدف من الاعتناء بالتعليم : المحافظة على التراث الإسلامي ورفع المستوى المعرفي والوعي السياسي والتماسك الاجتماعي والسمو بالقيم الروحة، وكلها تخدم روح الجهاد


   معاملة الكراغلة وقبائل المخزن : بين خيار العدل والتمييز


       كثيرا ما طرحت قضية علاقة عائلة الأمير بالأتراك ومن ناصرهم من الكراغلة وقبائل المخزن على أنها كانت سيئة . ولكن الأمير تعامله خاضعا إلى تصنيف يتماشى والمرحلة الجديدة حيث يتساوى فيها كل القبائل من حيث الحقوق والواجبات.ولكن المشكلة التي عكرت صفو العلاقات بين الأمير وهذين الفئتين أنهما كانتا تحظيان بالامتيازات والتقدير والتمييز عن بقية القبائل والأفراد ، ولهذا لم تستسغ الواقع الجديد .

       ومن هذا المنطلق كان الأمير أمام خيارين : إما إبقاؤهم على نفس الحال والتميز الاجتماعي والامتيازات وبالتالي يقع في تناقض ومواجهة مبدئية وقيمية مع القبائل المجندة والتي تدين له بالولاء . ولم يكن من شيم الأمير أن يضع نفسه في هذا الحرج الاجتماعي والمحذور السياسي فضلا على غياب العدالة والمساواة بين أفراد الدولة التي ينشدها ورفع الكثير من شعاراتها وحملتها خطبه المنبرية ودروسه ومواعظه .

       وكان الخيار الثاني التعامل معهم على أساس النسيج الاجتماعي العام لهم وعليهم ما لغيرهم من القبائل والرعية . وأن الجميع سواسية في دولته وأن الهدف هو خضوع الجميع لقيادة الأمير لمواجهة العدو وتدبير الموارد المادية والبشرية لاستمرار الجهاد ، أي على هذه القبائل الانخراط في سلك الدولة والجهاد والولاء للأمير .

       ولكن الأمير اصطدم أمام جنوح بعض الكراغلة وقبائل المخزن بعدم مساواتهم مع غيرهم مما حدا بالكثير على الانحياز بالولاء لملك المغرب كما هو الحال بالنسبة لكراغلة تلمسان. ثم تحول ولاءهم للسلطات الفرنسية . ونفس الشيء حدث مع كراغلة وادي الزيتون بالأخضرية حيث تعاونوا مع السلطات الفرنسية ونصبت القائد بيروم حاكما عليهم مما حمل الأمير على محاولة إخضاعهم ونقل الكثير منهم من بمعسكر ومليانة ومستغانم ليستقروا بالقرب من قاعدته الرئيسية تاغدامت .

       كما خرج الأمير في حملة عسكرية من المدية ضد كراغلة في وادي الزيتون سنة 1838 واستطاع إخضاع بعضهم بوساطة المرابطين وبعض الشيوخ  ولكن الكثير منهم بزعامة القائد بيروم رفض مصالحة الأمير وأنه تحقيرا وإهانة لهم .وورد في كتاب تحفة الزائر " طالما عاملت اعوجاج  قبائل الزيتون بالاستقامة وعاملتهم على ما فيه من الإساءة بالمعاملة الحسنة ، فلم يزدهم ذلك إلا اعتدادا واستكبارا مع علمهم .. وأننا دافعنا الأعداء بالمال والبدن وقد خالفوا فحالفوا أعداءنا في الدين ومنعوا دفع الزكاة والعشر المفروضة عليهم شرعا لبيت المال ".

       ورغم أن الأمير أخضع معظم  قبائل الكرغلة والعناصر التركية والمخزنية ، وعفا عن الكثير من أسراهم  ، قصد إدماجهم في الدولة  إلا أن بعضهم ظل يتحين الفرصة للتخلص من الأمير وظهر ذلك جليا بعد نقض فرنسا لمعاهدة التافنة في 1837 حين اظهروا عصيانهم ، لنصل أن موقف الأمير من هذه الفئة كان يخضع لمبدأ العدل والمساواة بين مختلف الفئات وهو مالم يرق الكراغلة وعشائر المخزن . كما اختاروا الانحياز للعدو وكانوا جزء من عوامل إضعاف الأمير .

       وفي الأخير يمكن القول أن الأمير قد جمع بين الملكات الروحية والسياسية والعسكرية ، وهي أشياء اكتسبها من التنشئة والبيئة العائلية وصقلتها روح الجهاد والتعامل مع الواقع ، وفي كل الحالات شهد الكثير أن تجربة الأمر كانت فريدة في نوعها من حيث محاولة إقامة دولة عصرية في ظل ظروف صعبة ، وكان عامل القيم حاضرا في الكثير من مواقفه وسلوكاته مع الأفراد والقبائل والدول والأسرى والعلماء والجند .

       فكانت قيم العدل والمساواة والتسامح والحوار والمراسلة والحوار قائمة مع مختلف الجهات أصدقاء وخصوما ، فاتحا باب الحوار والحجة .ولكن كان الضابط في كل هذا القيم الشرعية والإنسانية وإقامة الحجة قبل الفعل أو الهجوم ، وعزز موقفه وسلوكه استحضار استشارة العلماء وعرض المسائل عليهم في الداخل والخارج درء لكل المزالق .



-----------------------------------------------------
المصدر: ابوبكر حميدي، محطات في تاريخ الجزائر الحديث

تعليقات