اتجاهات النهضة
ومنطلقاتها في الوطن
العربي المعاصر
لقد أظهرت الأدبيات المؤرخة لفكر
النهضة العربية تنوعا في الأطروحات، بفعل حلة الثراء المجتمعي اثنيا، وإيديولوجيا
وسياسيا، وهي في تدافعها، قد حاولت أن تعرض حلول لمواجهة حالة التخلف والركود
الحضاري، التي وجد الإنسان العربي مشرقا ومغربا نفسه يحياها في القرن التاسع عشر
والنصف الأول من القرن العشرين، لا سيما وهو يواجه أنموذجا حضاريا زاحفا في ميادين
شتى، عسكرية وسياسية، وأنماط فكرية ومنجزات علمية، وقوالب تقنية، ويتعلق الأمر
بالعالم الغربي عموما، وأروبا على وجه الخصوص.
فكان أن أفرزت
الساحة العربية تصورات متعددة للخروج من تلك الحالة، وقد صعب وضع تحديد دقيق،
وحدودا فاصلة زمنيا أو جغرافيا بين تلك الأفكار المتنافرة أحيانا، والمتقاطعة
أحيانا أخرى، الأمر الذي جعل مسألة ضبطها بشكل دقيق على أسس واضحة، من الصعوبة
بمكان، وبالتالي جرى الحديث عن تصنيفات، جعلها البعض ثنائية متضادة فيما يعرف
بصراع الأصالة والمعاصرة، وعدّها آخرون ثالثة اتجاهات رئيسة، وقد يتفرع عنها الكثير
من المجموعات.
عموما سنعتمد نحن هنا التقسيم الذي
يبدو لنا موضوعيا إلى حد بعيد، والذي يتمثل في: تيار الأصالة - تيار المعاصرة –
التيار التوفيقي.
1-/تيار الأصالة/ (النزعة السلفية):
يدعو إلى استعادة النموذج العربي الإسلامي
كما كان قبل الانحراف والانحطاط، أو على الأقل الارتكاز عليه لتشييد نموذج عربي إسلامي
أصيل، يحاكي النموذج القديم في الوقت ذاته الذي يقدم فيه حلوله المناسبة لمستجدات
العصر، بحسب ما ذهب إليه المفكر محمد عابد الجابري.
ويرى البعض أن هذا التيار مناقض تماما
لتيار الحداثة، حيث يسعى للبحث عن أسباب التخلف ضمن إطار الإسلام نفسه، ويرى أن
النهضة والتقدم، لا يمكن أن تتحقق للعرب والمسلمين، إلا بما حقق لهم في الماضي
مجدهم ورقيّهم، أي بالرجوع إلى سيرة السلف الصالح، والاقتداء به، والقطيعة الكاملة
مع ما تحمله الحداثة الأوربية بوصفه مخالفا للشرع.
يذهب المفكر الإسلامي محمد عمارة في
تحليله للخالف القائم فيما بين العلمانيين والإسلاميين، إلى القول: " إن
استحكام هذا الخالف، وتعمق هذه الثنائية، قد أصابا حياتنا الفكرية بما يشبه الطائفية
الحضارية فرأينا ونرى كل فريق يعيد تكرار حججه ومقولاته، دون أن يبذل جهدا حقيقيا
في فقه حجج الفريق الآخر ومقولاته، علمانيون يرفضون التراث دون إحاطة به، بل وال
معرفة بمنابعه، وما لديه من عطاء صالح للحاضر والمستقبل، وتراثيون لا يقيمون وزنا
لعلامات الاستفهام، وبواعث القلق من إسلامية الحياة والدولة لدى العلمانيين...والنتيجة
المأساة هي تبديد طاقاتنا الفكرية ".
وبالنسبة للباحث كمال عبد اللطيف، فإن
خطاب التيار السلفي، قد عرف نوعا من المراجعات بين الجيل المؤسس له، على غرار جمال
الدين الأفغاني ومحمد عبده، حيث حاول هؤلاء، التوفيق بين قيم الإسلام وقيم العصر،
فال تناقض بين الإسلام والعلم، وال بين الإسلام والفلسفة، وكل مبتكرات الحضارة
الغربية الراهنة في نظرهم، تعدّ في عمقها تتويجا لمحاولات بدأت في دار الإسلام،
وفي زمن ازدهاره في عصور خلت، لكن السلفيين المتأخرين على غرار رشيد رضا، وحسن
البنا، وسيد قطب، قد رفضوا مبدأ التوفيق بين مظاهر الحضارة الغربية والإسلام،
واعتبروا أوربا المعاصرة بكل منجزاتها الفكرية والسياسية والتقنية مجرد جاهلية
جديدة.
ولعلنا نستشهد في هذا الباب بما كتبة
سيد قطب: " ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي، ولا أن ندين بالولاء
له، فهو بهذه الصفة – صفة الجاهلية – غير قابل لأن نصطلح معه...إن مهمتنا هي تغيير
واقع هذا المجتمع الجاهلي من أساسه، إن أولى الخطوات في حركتنا، هي أن نستعلي على
هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته وألا نعدّل نحن في قيمنا وتصوراتنا قليلا أو
كثيرا، لنلتقي معه في منتصف الطريق ".
2-
/تيار المعاصرة/ الحداثة/ النزعة الليبيرالية:
يرى أنصار هذا الاتجاه، بأن تحقيق
النهضة والتقدم يكون في تبني الحداثة الغربية بشكل كامل، والقطيعة مع عصر الانحطاط،
وما قبله من العصور العربية والإسلامية، حيث يدعو محتضنيه إلى تبني النموذج الغربي
المعاصر، بوصفه نموذجا للعصر كله، أي النموذج الذي يفرض نفسه تاريخيا كصيغة حضارية
للحاضر والمستقبل.
والواقع، أن هذا االتجاه، قد جمع
خليطا فكريا وإيديولوجيا ودينيا، حيث مثله أساسا
الكتاب المسيحيون لا سيما المنحدرون
من بلاد الشام، وقاسمهم الطرح عدد من الكتاب والمثقفين المسلمين، الذين عرفوا
انفتاحاً واسعاً على الفكر الأوربي واعتبروا العلم أساس المدنية، وقللوا من أهمية
الدين، وفكروا في دولة تفصل بين السلطة الزمنيّة والسلطة الروحيّة، ودافعوا باستماته،
عن النظريات العلميّة الاجتماعية السائدة في العالم الأوربي واتخذوا من حياة أوربا
النموذج النمطي للحياة.
لقد نقل المثقفون المسيحيون الى الفكر
العربي تيارات الفكر الأوربي وخاصة الجانب العقلاني الليبرالي وتناولوا علاقة
العلم بالدين والمجتمع، فأسهموا في تحسيس المجتمع العربي، وتركيز انتباهه على
قضايا العلم بعيداً عن الدين، وتداولوا مقولات الفكر ّي الاجتماعي قصد تغيير
أوضاعهم الدينية والاجتماعية، واعتبروا أ َّن كل تقدم اجتماعي منوط بالعلم لا
بالدين، بل اعتبروا التعصب الديني أساس البلاء والتأخر.
ففي هذا السياق، يذهب الباحث هشام
شرابي في تحليله لفكر قاسم أمين، إلى أنه يؤمن بأن العلم هو الأساس الشرعي الوحيد
للحقيقة، وأن مفتاح الخالص للمجتمع الإسلامي يكمن في التغلب على الجهل، ونشر
المعرفة والتنوير، وبسبب تأثر أمين بتعاسة الجماهير في مصر، والتي أرجعها بحكم
الفلسفة التي يؤمن بها إلى النزعة المحافظة المتصلبة عند عامة الناس، وإلى مقاومتهم
العمياء للتغيير، مما قاده إلى القول: " من بين أسباب نكبتنا، أننا نسند حياتنا
على التقاليد التي لم نعد نفهمها، والتي نحافظ عليها فقط ألنها أعطيت لنا ".
وفي دراسته لفكر طه حسين، ذهب الباحث
ماجد السامرائي، إلى أن هذا الكاتب المصري، قد بالغ في التنكر انتمائه الحضاري، حينما
أعلن في ثنايا كتابه الموسوم "مستقبل الثقافة في مصر"، بأن أرض الكنانة تمثل جزءا من أوربا في
كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها، مؤكدا أن من
السخف الذي ليس بعده سخف، اعتبار مصر قطعة من الشرق، وعلى الرغم من المراجعات التي
وسمت كتابات طه حسين اللاحقة بحسب ذات الدارس ، إلا أن فكر الرجل ظل يرى بأن
الثقافة الغربية بتمثلاته لها تبدو وكأنها محور حركة العالم.
يقول المفكر
عابد الجابري عن مسألة الحداثة: " نحن نعرف جميعا أن مسألة الأصالة والمعاصرة
في فكرنا العربي الحديث، لم تطرح – عندما طرحت لأول مرة في القرن الماضي – من
منظور يرفض الحضارة الغربية الحديثة، ومظاهر التقدم والرقي فيها، الاقتصادية منها والاجتماعية
والسياسية والثقافية، بل على العكس لقد طرحت في إطار السؤال النهضوي المحوري في
الفكر العربي الحديث، لماذا تأخرنا نحن العرب المسلمين، نحن الشرق، وتقدم غيرنا،
أوربا المسيحية ، الغرب، وبالتالي كيف ننهض؟ كيف اللحاق بالركب ؟"
3-/التيار التوفيقي/:
اتخذ موقف التوفيق بين كلا الاتجاهين،
وتتلخص أطروحته في العبارة القائلة: " نأخذ من الفكر الأوربي ما هو ضروري
لنهضتنا وتقدمنا، وال يتناقض مع قيمنا وأصالتنا، ومن تراثنا تلك الجوانب المشرقة،
التي جعلت من حضارتنا أعظم الحضارات في عصرها، والتي لا تتعارض مع متطلبات التقدم
في عصرنا.
وحول مسألة التوفيقية، كتب محمد كرد
علي: " فليعلم الجامدون على مسطور القديم، أن لا قيام لأمرنا بغير الأخذ من
مدنية أوربا، ويدرك أنصار الحديث، بأن هذه المدنية الجديدة التي بهرتهم بزخارفها
وسفاسفها، لا تنفعهم وتنفع بني قومهم، إلا إذا رافقها ما يجملها من علوم الأسلاف
وآدابهم، والأمة التي تنزع ربقة قديمها جملة واحدة، وتنتقل إلى طور آخر دفعة
واحدة، قد ينعكس عليها الأمر، ويتلوى عليها القصد
".
ويضيف مؤكدا على هذه القضية: "
وبعد، فإن كل عاقل عرف تاريخ هذه الأمة، يرى الخير كل الخير في احتفاظها بقديمها،
وفهم كل ما ينفع من هذا الجديد، على أن يكون للدين والعلم حريتهما، فتكون
المعتقدات بمأمن من طعن الطاعنين بها، وإذا رأى بعضهم في بعض المعتقدات ما ال
ينطبق على روح الحضارة والعلوم العصرية، فالأولى أن يطبقوا العقل على النقل، كما
هو رأي كبار علماء الإسلام منذ القديم، وإذا عجزت عقولهم عن ذلك، فالأجدر بهم
أن يأخذوا بعض القضايا بالتسليم،
ويتركوا العالم حرا يسير وحده دون أن يعوقه عائق، وما نخال كل عاقل إلا ويعتقد أن
صحيح النقل، لا يخالف صريح العقل".
ويرى المفكر الجزائري مالك بن نبي،
ضرورة الانفتاح على الحضارة الغربية، فقد فرضت حضورها وال يمكن القفز على هذا
الواقع، حيث ذكر في هذا الباب: " ونحن في القرن العشرين، نعيش في عالم يبدو
فيه امتداد الحضارة الغربية قانونا تاريخيا لعصرنا، ففي الحجرة التي اكتب فيها الآن
كل شيء غربي، فيما عدا (القلة) التي أراها أمامي، فمن العبث إذن أن نضع ستارا
حديديا بين الحضارة التي يريد تحقيقها العالم الإسلامي، والحضارة الحديثة ".
وبالنسبة للمصلح خير الدين التونسي،
فإن الاقتباس يمثل قانونا مطردا في التقدم والتأخر، فالنهضة الأوربية تحققت بالاقتباس
من العرب، وكذلك تتحقق النهضة الإسلامية الحديثة بالاقتباس من الغرب، وقد انطلق في
طرحه من فكرة أساسية فحواها، أن العالم قد أصبح مترابطا، فال يمكن أن نعيش في عزلة
عن الآخرين، وفي هذا الصدد كتب:" إذا اعتبرنا ما حدث في هذه الأزمان من
الوسائط، التي قربت تواصل الأبدان والأذهان، لم نتوقف أن نتصور الدنيا بصورة بلدة
متحدة، تسكنها أمم متعددة، حاجة بعضهم لبعض متأكدة وكل منهم وإن كان في مساعيه
الخصوصية غريم نفسه، فهو بالنظر إلى ما ينجر بها من الفوائد العمومية مطلوب لسائر
بني جنسه ".
ويضرب بسهم وافر في أفكار هذا التيار،
المصلح رفاعة الطهطاوي، فقد تحدث عن تمدين مصر والنهوض بها، وذكر في سياق حديثه عن
روافد الأفكار التي جاء بها، والتي
ضّمنها أحد أشهر كتبه:" اقتطفتها
من ثمار الكتب العربية اليانعة، واجتنيتها من مؤلفات الفرنساوية النافعة، مع ما
سنح بالبال، وأقبل على الخاطر أحسن إقبال، وعززتها بالآيات
البيّنات، والأحاديث الصحيحة والدلائل
المبيّنات، وضمنتها الجّم الغفير من أمثال الحكماء،
وآداب البلغاء، ومع كل ما ترتاح إليه الأفهام،
وتنزاح به عن الذهن الأوهام ".

تعليقات
إرسال تعليق