الموروث الحضاري العثماني بالجزائر بين جدلية
التمجيد والنقد في الكتابات المحلية والأجنبية
إن تسليط الضوء على أهمية العلاقات التاريخية والحضارية بين الجزائريين والأتراك في العصر الحديث يساعدنا على الفهم الإيجابي للتاريخ الذي من خلاله يمكن اليوم تأسيس علاقات تعاون متينة في مختلف الميادين والنظر للمستقبل بإيجابية على غرار الماضي الذي تجسدت فيه ملامح الانسجام والتوافق والتعاون والنصرة وتبادل الأدوار في حوض البحر البيض المتوسط، وإجمالا يمكن تسجيل السمات التي ميزت المرحلة العثمانية بالجزائر: ـ أن العلاقة القائمة بين الجزائريين والأتراك كانت منطلقاتها قائمة على الاستنجاد وليس الغزو أو التدخل العسكري على غرار بعض الدول الأخرى .
ـ الوحدة العقدية السنية ـ المالكية والحنفية ـ التي شكلت نموذجا للتعايش بين المجتمعين دون
سعي طرف لاحتواء الآخر أو إلغائه.
ـ مبدأ الثقة والولاء جعل الأتراك يهتمون بالبحر والوقوف
في وجه الأوربيين دون التركيز على الداخل .
ـ ظاهرة الاندماج الاجتماعي من خلال الزواج مع
الجزائريات وميلاد عنصر وسيط دعم من روابط العلاقة الدموية ـــ الكراغلة ــ
ـ التكامل والنصرة في مواجهة الهجمات الأوربية فالأسطول
الجزائري هو الأسطول الوحيد في العالم العربي الذي ظل يقف إلى جانب الخلافة
العثمانية ضد الحملات الأوروبية ومعركة نافا رين 1827 كآخر نموذج لذلك قبل احتلال
الجزائر.
ـ رغم بعض الخلافات وبقاء العنصر التركي متميزا
واستئثاره بالحكم والتقصير في بعض الجوانب العلمية لكن التوافق بين المجتمعين ظل
قائما. فهل هذا يعود إلى شعور كل طرف بالحاجة للآخر ؟ أم أن هذه النقائص كانت تهون
أمام التحدي القائم ؟ وكيف تم استثمار العوامل السابقة الذكر في تذليل العقبات
التي كانت موجودة ؟ وكم كان عامل الولاء للخلافة حاضرا في هذا التوافق ؟
إن هذه التجربة التاريخية التي دامت أكثر من ثلاث قرون لجديرة بالدراسة على ضوء العناصر السابقة والعمل على استثمارها في الوقت الراهن وتوظيفها في التقارب والتعاون بين البلدين في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي وخاصة أن كل العوامل التاريخية والنفسية تخدم هذا الاتجاه .
أولا
: اختلاف الرؤية بين الأتراك والعرب
تباينت
الرؤية بين العرب والأتراك في تقييم الدولة العثمانية وخاصة في أواخر العهد
العثماني ونعتقد أن مرد ذلك يعود إلى عدة عوامل:
ـ
التراكمات الطويلة لإخفاقات الدولة العثمانية مع تزايد التغول الأجنبي ونظرة
الأطراف والولايات بتقصير الدولة وانتشار الكراهية المتنامية .
ـ
المساعي الحثيثة التي قدمها الانجليز والغرب عامة بواسطة العملاء أمثال لورانس
وغيره في الوقيعة بين العرب والترك.
ـ
التوجه الجديد للاتحاديين في محاربة العربية والإسلام وسياسة التتريك والتي كانت
في عمومها موجهة ضد الارتباط بالعرب وإن كان تأثيرها ضعيف على الجزائر.
التشجيع
الأوربي والأمريكي المتنامي للنصارى المتواجدين بالشرق العربي على الكراهية للدولة
العثمانية من خلال أن العثمانيين مستبدين وظلمة وجهلة، مستغلين المراكز الثقافية
والمدارس والمناهج لبث الكراهية واستغلال الخلافات السياسية والحدودية لفك الروابط
التاريخية والحضارية بين العرب والأتراك. وإن تركز هذا الأمر في المشرق العربي
ولكن المؤرخين الفرنسيين حاولوا تعميم النظرة والحكم لدى الجزائريين.
ـ الدعاية التي مارسها الإنجليز والفرنسيين عقب ثورة الشريف حسين أثناء مجريات الحرب العالمية الأولى وتوجيه الدعاية الخاطئة للصدام بين أنصار العروبة والتتريك والطورانية وما انجر عنها من صراع فكري .
ثانيا
: موقع الدولة العثمانية في الجزائر
كان التشابه كبيرا بين مجلس الديوان بالجزائر والديوان الهمايوني بالدولة العثمانية ، وبالتالي فهو يحاكي أو يماهي المؤسسة المركزية في الحكم. ولكنه يعين أو ينتخب باشا أو دايا ولا ينصبه كخليفة . وربما أن عامل البعد والتبعية الاسمية ولا توجد ضرائب مباشرة من الرعية نحو السلطنة المركزية ماعدا الدنوش الرمزي المعروف جعل العلاقة القائمة بين الآستانة والجزائر تتسم بالحميمية عامة وحفظا للتعاون في زمن الأزمات الحربية التي كانت محل تعاون الجيشين العثماني والجزائري.
ثالثا: الكتابات التاريخية والحكم العثماني بالجزائر:
أما في الجزائر فكانت الكتابات التاريخية التي
تدور حول العثمانيين تتراوح بين الشرعية الدينية والسياسية وفريق آخر يجعل من
الدولة العثمانية نظام احتلال واستبداد. وفي ذات السياق تطرح قضية التبعية
والاستقلال عن الدولة المركزية .
فالرأي
القائل بالشرعية يساند إلى طبيعة الدخول والبعد الديني والحاجة إلى الحماية من
الخطر الخارجي ، وهو ما أكسب الأتراك القادمين صفة الجهاد والدفاع عن دار الإسلام
والاقتدار والقوة وعزز ذك القبول العام من المجتمع الذي رحب بهم وحررهم من الإسبان وعبر عن هذا التوجه وجهاء المجتمع أمثال ابن
القاضي الذي قال لعروج وأخيه " إن بلادنا بقيت لك ولأخيك أو للذئب "، وكذلك في الرسالة التي بعث بها أعيان مدينة الجزائر إلى السلطان
سليم الأول سنة 1517م يظهرون فيها ولاءهم ورغبتهم في الطاعة والانضمام " نحن
لزمام أموركم وطاعتكم مستبشرون وعليكم لا محالة اعتمادنا ، فقد أطعنا أمركم . ونفس
الموقف لأعيان قسنطينة في رسالة لسليمان القانوني حول طاعة صالح رايس.
وبالتالي
فالراية الإسلامية في نظر الجزائريين في هذه المرحلة تمثلها القوة العثمانية ومن
ثم وجب الانضواء تحتها لحماية البلاد والعباد وهي التقاليد السياسية التي سار
عليها العرف الإسلامي قبلها حيث كانت الكيانات العرقية والثقافية والجغرافية ضعيفة
أمام الرابطة الإسلامية وخاصة في مثل هذه الظروف .
وإن
كان أصحاب هذا التوجه يجعلون من الحكم العثماني فرصة لتوحيد البلاد سياسيا وحققت
استقرارها حتى وإن احتكروا السلطة وأن الإجحاف والظلم هو تصرف سلطة الذي قد يمارسه
حاكم وطني.
وهناك
أصحاب الرؤية المعاكسة الذي يجعل منه حكما استبداديا استعماريا وفي غالبهم متأثر
بالكتابات الأوربية وبالمنهج الأوربي وبإسقاط الواقع الحالي على معطيات الماضي
وأحيانا تخفي هذه الكتابات ميولا سياسية واستعمارية لتبرر للاحتلال الفرنسي فيما
بعد ونافيا أي كيان للجزائر في ظل الحكم العثماني ، وقد أخذ بعض المشارقة بهذا
المنهج .
وقد
ذهب الأستاذ سعيدوني ناصر في معالجة هذه القضية أن الكيان الجزائري لم يأخذ شكل
الأمة الكاملة والسيادة الكاملة الصلاحية وكيانا مصطنعا وخاضعا لاحتكار الأقلية
الأجنبية ، بل كان كيانا محليا وفق بيئته وعصره . فالظاهرة العثمانية كانت عامة
في العالم العربي والجزائر لم تكن أمة بالمعنى الحديث ولكن دولة لها خصوصيتها
وحكومة لها سياستها ظهرت بعامل التحدي في غرب المتوسط وفرضتها الظروف الداخلية
والخارجية، وساهمت في حماية أقطار المغرب العربي.
فهو يراها تمثل نموذجا للدولة المستقلة في ظل الشرعية العثمانية ، والوحدة من خلال التنوع ، والخصوصية في إطار التكامل.
إن
المتتبع لمختلف الدراسات حول علاقة العثمانيين بالجزائر فإنه يشخصها على أن
الرابطة بينهما هي عقيدة الإسلام المتمثلة في ولاء الخلافة، ونظر الجزائريون على
أنهم تحت دولة تحميهم من الأخطار الخارجية. ورحبوا بهم منذ البداية . ولكن
العثمانيين لم يحترموا هذا المبدأ " فترَّكُوا" الحكم ونظروا للجزائريين
نظرة الغالب للمغلوب ، والدليل على ذلك أنهم حكموا باسم الإسلام سكان البلاد
ولكنهم لم يشركوهم في الأمر أو يختلطوا بهم ، وأساؤوا التصرف أحيانا إليهم ،
فكانوا فئة متميزة احتكروا الحكم طيلة العهد العثماني . وأن همهم جمع المال والتسلط،
وحكموا الجزائر بيد من حديد وكثر في عهدهم سلب الأموال والرشوة والهدايا وحتى
التعدي على الأوقاف وأموال الأيتام ، ومكنوا اليهود في الاقتصاد ولا يتكلمون
العربية ولا يستعملونها في الإدارة إلا قليلا ، كما كانوا جفاة غلاظا في التعامل .
وظل الجزائريون الفئة الأكثر دفعا للضرائب، ومعظمهم في الأرياف لممارسة الزراعة
وبعيدين حتى عن المناصب الإدارية والعسكرية الدنيا.
ومن جهة أخرى لم يعامل الجزائري كالتركي (لا يعاقب التركي أمام الملأ). ورغم مرور ثلاث قرون لاحظ بعض الباحثين تمسك غالبية الأتراك بالأسماء الدالة على أنهم أتراك أو يحملون أسماء لها صلة بالوظيفة الانكشارية . فطابع الهوية التركية بقي متميزا رغم مرور أجيال ولدت بالجزائر.
ووظفت
بعض القبائل المخزنية أو قبائل الأجواد لآداء دور الوسيط في استتباب الحكم (أولاد
بن قانة ، بن لحرش ، أولاد بن عاشور ، الحنانشة ، أولاد عز الدين ، الدواودة ...،
ومنحت بعض الألقاب والرتب كشيخ القبيلة و الباشاغا للإشراف على الضرائب والأمن .
ويرى سعد الله أن المظهر
العسكري الجهادي للعثمانيين في الجزائر والتهديد الخارجي جعل حالة الخوف الدائم من
الخارج والاستبداد في الداخل ووصل إلى أن نظام الحكم العثماني أشبه بالنظام
الجمهوري العسكري المغلق ( جمهوري ــ لأن الحكم منتخب ــ وعسكري
ــ من رياس البحر أو الانكشارية ــ ومغلق ــ لأنه نظام لا يسمح فيه إلا
للوجق بممارسة السلطة ) . وامتد الانغلاق إلى أن حكام البلاد لم يكونوا قد ولدوا
بالجزائر أو تربوا فيها أو تعلموا لغة أهلها والأغرب من ذلك أن أبناء الباشاوات
يمكن أن يرتقوا لمناصب آبائهم إذا كانوا من أمهات تركيات أو حتى أسيرات مسيحيات
بينما لا يسمح لمن كانت أمه جزائرية مسلمة .
وبين الإنصاف للعثمانيين ونقدهم كثيرا ما عدد سعد الله
مناقب العثمانيين في رسم ملامح الدولة الجزائرية الحديثة بل زين صورتها بإبراز
الكنوز الثقافية للجزائريين خلال العهد العثماني ليرد على رواد المدرسة
الاستعمارية أنه لا ماضي سياسي وثقافي للجزائر . ولكنه في نفس الوقت كان صريحا في
نقد العثمانيين بالجزائر ويجدر بنا هنا ذكر أمرين فقط على سبيل المثال : الجانب
السياسي المتمثل في الحكم ، والثاني الجانب الثقافي والعلمي .
أ ــ فحول طبيعة
الحكم العثماني ونمط حكامه وعلاقتهم بالسكان كان ناقدا لهم ومشخصا لحالهم وهو ليس
من باب عد المثالب ولكنه من باب الحقيقة التاريخية والوقوف على المحطات التي كانت ضمن الأخطاء الكثيرة التي ساهمت في
تراجع الدور الحضاري للدولة العثمانية ، ورصد لنا الدكتور سعد الله بعضا منها
لتكون في دائرة التجربة التاريخية والاستفادة منها .
ومن قبيل التمثيل والاختصار نسجل ما كتبه الدكتور سعد
الله في هذا الباب " كان حكام الجزائر الأتراك في معظم الأحيان جهلة لا
يعرفون القراءة والكتابة .....إنهم كانوا يحكمون الجزائريين بيد من حديد ويسلبونهم
أموالهم وثرواتهم عن طريق الضرائب والرشوة والهدايا....وقد مكنوا طائفة اليهود في
الاقتصاد وكانوا يفضلون الأسيرة المسيحية على المرأة الجزائرية .." .
وأنهم احتكروا الحكم طيلة العهد العثماني ولم يشركوا السكان المحليين في أمر بلدهم
. وفي
مواقع كثيرة أسدى للعثمانيين دورهم في درأ الخطر الخارجي وحماية المسلمين عامة
والأندلسيين خاصة وتحرير سواحل الجزائر ولكنه لام الأتراك على تقصيرهم وتركيزهم
على حماية الحكم ، وسوء تصرفاتهم .
ب ــ وفي الجانب الثقافي والعلمي : رأى سعد الله أنه كان
ينتظر أن تعوض اسطمبول في الشرق والجزائر في الغرب المنارات العلمية التي انطفأت
في العالم الإسلامي ، ورغم كونهما مراكز للقوة العسكرية والجهاد البحري لكنهما لم
يكونا بديلا في مجال العلم والفنون. ونعتقد أن مترجمنا حدد بهذا الحكم ثغرة
مهمة ضمن أسباب انهيار الدولة العثمانية
بصفة عامة.
ومن خلال الدراسة المستفيضة التي أنجزها سعد الله رحمه
الله حول الجانب الثقافي في الجزائر فبقدر ما ساهم في إخراج الكم الهائل من
الشخصيات العلمية والكنوز الثقافية التي غير بها صورة الجزائر الحديثة فإنه وقف
على العديد من الهفوات في الحكم العثماني التي اقترفها في حق المجال العلمي
والثقافي . والتي وصفت بمحدودية العطاء العلمي ، وظاهرة الجمود الفكري ، وأوعز ذلك
إلى طبيعة الحكام وثقافتهم وعسكريتهم ، وإن كانت هذه الظاهرة في العالم الإسلامي
عامة. واعتبر الدكتور سعيدوني هذا الموقف تطورا نوعيا من جانب سعد الله صاحب الميول
العربية الإسلامية.
ومما ذكر في هذا الجانب عدم الاهتمام بدور العلم وإقامة الحواضر
العلمية على غرار القرويين أو الزيتون ، ورعاية دور العلم والعلماء، أو وجود سياسة
واضحة في المجال العلمي والإشراف على التعليم ، وترك الأمر لأهل البلد ليتدبروا
شأنهم وتعليم أبنائهم ، وهو ما أو جد محدودية التعليم ونجاعته ، وهجرة للعلماء
للحواضر العلمية المجاورة .
أما حكم المقاطعات فإن الدكتورة
فاطمة الزهراء قشي قالت بأن الرؤية اتضحت نسبيا حول هذا الموضوع في الدراسات
الأخيرة بأن الكراغلة حكموا في المقاطعات وربما أن أسرة مصطفى بوشلاغم المسراتي
ببايلك الغرب الجزائري قد تبوأت هذا المنصب ، بينما هناك شك في عروبة عائلة فرحات
بقسنطينة.
ومنهم من عاتب العثمانيين على
تأخرهم في مساعدة الجزائريين في محنتهم حين سقطت في يد الفرنسيين ومن هؤلاء حمدان
بن عثمان خوجة من خلال مراسلاته التي وجهها للسلطان العثماني حينها.
وأرجع بعض الباحثين ظاهرة الخضوع للسلطة العثمانية عامة أحيانا رغم التجاوزات لارتباطها بعناوين سياسية وشرعية كبيرة كالدفاع عن الثغور والتصدي للتهديدات التي ذكرناها سابقا وبالتالي تضفي على أصحابها لونا من الشرعية العامة التي تصل حد مسحة القداسة أحيانا باعتبارهم يقومون بأدوار تساهم مباشرة في حفظ مرتكزات الأمة واستمرارها ، وهو ما أوجد تقاليد سياسية تنتظمها رابطة الأخوة المجاهدة وهو شرط أساسي في تجمع مختلف القوى السياسية والفكرية والاجتماعية حول أي مشروع.
رابعا : قضية توارث الحكم
بالجزائر
ومن الباحثين من توصل إلى أنه
فعلا لم يصل إلى المراتب العليا بالجزائر إلا الأتراك ولكن إلا للقادرين منهم ممن
تخرج من صفوف الانكشارية وكان جديرا بها. أما حول توارث الحكم فلم يكن الصيغة
السائدة باستثناء بعض الحالات ، وأوعزت الأستاذة فاطمة الزهراء قشي الأمر إلى أن
الحكم لم يكن سلاليا ولكن انحصر بين مجموعة من الأوليجارشية وضمنها حدث أن خلف الابن أباه في أعلى المناصب
باستثناء منصب الداي ولكنها لم تصبح قاعدة عامة ومتبعة.
وهذه الظاهرة وإن نجحت التجربة
الملكية في تونس أثناء العائلة الحسينية وبروز الظاهرة في ليبيا مع الأسرة
القرمانلية لم يكتب لها النجاح في الجزائر .
والملاحظ أن فترة البايلربايات التي استمرت إلى غاية 1587 لم يكن التوارث إلا لحسن بن خير الدين وفي فترات متقطعة وخلالها كان التعيين من الباب العالي دون تحديد المدة ، ولكن بعدها أصبح التعيين لمدة ثلاث سنوات وهو تخوف من السلطة المركزية من حدوث عملية استقلال ، وهذا ما حال دون الانفراد بالسلطة أو الاستقلال بها بالجزائر أو توريثها ويبدو أنها نفس التجربة طبقت في الأقاليم.
خامسا: العلاقة مع يهود الجزائر
ومن جهة أخرى لا يمكن إغفال بعض
مظاهر الحظوة التي حصل عليها اليهود ومنهم من ذكر أنهم ساهموا في بعض الأزمات التي
مرت بها الجزائر ، كإثارة الفتن ، والاحتكار الممارس وخاصة المواد الغذائية مما
سبب الكثير من الكراهية لهم وذكر أحد الباحثين أن جميع فئات الشعب من انكشاريين
ومدنيين وفقراء وأغنياء كانوا ضد اليهود. وظن هؤلاء أن الظلم الذي لحق بهم في عهد الداي
مصطفى بسببهم ، فيتدخلوا في عزل من لا يروقهم، وانتشار المجاعة بسبب احتكار الحبوب وبيعها للخارج، وربما هذا الكره المتنامي هو الذي ساهم في قتل
بوشناق سنة 1805 وقتل أكثر من 50 يهوديا والتجأ الباقي للقنصلية الفرنسية رغم
الخلافات التي كانت قائمة بين اليهود والقنصل الفرنسي في هذه المرحلة.
وفي الأخير: فإن تقييم الدولة العثمانية بين دورها المركزي
والممارسات التي وظفتها في الأطراف التي تدور في فلكها يجب أن لا تكون خارج السياق
التاريخي الذي عاشت فيه من جهة ، ومن جهة أخرى فإن النظرة الأولية السلبية أو
الإيجابية نحوها تعتبر عائقا في إنجاز دراسة موضوعية أو قريبة من الموضوعية
التاريخية
كما أن الفترة العثمانية التي
تجاوزت الأربعة قرون واكبتها تحولات كبيرة في العالم القديم منها ما تأقلمت معها
وفرضت وجودها ومنها ما تجاوزتها فزادت من عيوبها وانعكس ذلك على العالم العربي.
وعليه أن لا نحاكم الدولة العثمانية على قرون خلت بمقاييس حالية.
وإذا
ذهب البعض أمثال عبد الرحمان الجبرتي إلى سرد الكثير من المناقب للدولة العثمانية
وخاصة في عهد السلطان سليم الأول وسليمان القانوني وركز على وقف المظالم والتصدي
للغزاة وتحصين الثغور وإقامة الشعائر وتعظيم العلماء وإقامة المنشآت العسكرية من
مدفعية وهندسة عسكرية . ولم يتطرق إلى المثالب وقد نلتمس له حول ما ذكرناه لأنه
تكلم عن فترة حكم معينة ، وكانت المعايير التي يقاس بها الصلاح والإعمار هي التي
تطرق إليها.
وبالمقابل رأى إحسان حقي أن الذين يرمون
العثمانيين بأنهم جعلوا من البلدان العربية خرابا مخالف للواقع بدليل أن بلادهم لم
تكن أقل من أوربا عمرانا وبنوا الجسور والمساجد الفخمة والقصور والمطاعم المجانية
والمشافي والحمامات وتفننوا في الخط والزخرفة . وكانوا أمة حرب وقوة واخترعوا
المدفع وغزوا البحر ومدت الخطوط الحديدية وأسلاك البرق. وأنه يجب أن نقوم الدولة
العثمانية وفق زمانها وعصرها.
ونعتقد أن النظرة كانت جد
متباينة بين المشرق والمغرب العربيين تجاه الدولة العثمانية، وهي تنطلق في بنائها
على العلاقة الأولى مع الدولة العثمانية والظروف التي مرت بها كل جهة. ولكن تطور
الدراسات من طرف أجيال ازدادت بعدا زمانيا جعلها تقلل من هذه الهوة الحاصلة .
--------------------------------

تعليقات
إرسال تعليق