القائمة الرئيسية

الصفحات

التطور التاريخي لمبدأ حظر استخدام القوة

   التطور التاريخي لمبدأ حظر استخدام القوة





          إنّ استقرار جماعات إنسانية في نطاق مساحة إقليمية محددة، وخضوعها لسلطة عليا واحدة، ساهم في تطور بعضها ليشكل فيما بعد الدول و الحضارات التي سادت في العصور القديمة .

        ففي فجر التاريخ أي حوالي 3100.ق.م، أبرمت معاهدة يضرب بها المثل في حضارة ما بين النهرين آنذاك، ما بين أيناتم الحاكم المنتصر لدولة مدينة لاغاش و ممثلي شعب أو ما يؤكدان فيها حرمة الحدود التي اعترف بها شعب أوما، و ذلك بأداء القسم ببعض آلهة سامراء، كما تضمنت هذه المعاهدة شروطا بالتحكيم في المنازعات.

        أمّا في الحضارة المصرية، نجد الفراعنة قد أبرموا عدة معاهدات مع ملوك و قادة الشعوب المجاورة ، يمكن تقسيمها إلى ثلاث أنواع :

 1- معاهدات تبعية

 2- معاهدات تحالف

 3- معاهدات حماية

و كلها لا تقل أهمية عن المعاهدات الحديثة من حيث الدقة و التنظيم، كالتي أبرمها فرعون مصر رمسيس الثاني مع خاتيسار أمير الحثين (مانوشيل) سنة 1279 ق.م، والتي حررت باللغة البابلية ( لغة الدبلوماسية في ذلك الوقت )، فنصت على علاقات السلام و التعاون بين الدولتين ، كما تقضي بتوقف القتال و احترام كل الطرفين حدود أراضي الطرف الأخر، وتبادل المساعدة في حالة تعرضهما لهجوم عدو مشترك،و أن يقوما بعمل مشترك للقضاء

على الثوار، و تسليم أسرى الحرب إلى الجهات المختصة.

        أمّا في الهند نجد قوانين مانو التي وضعها سنة 1000 ق.م، و التي بحث فيها في عدة جوانب فيما يخص الحرب ،والقانون الإنساني ،والدبلوماسية ،وكلها قوانين متفرعة من القانون الدولي المعاصر.

ففي قانون الحرب و القانون الإنساني أمر مانو بتحريم قطع الأشجار و تعطيل الحقول الزراعية : " و أوجب على المحارب ألا يقتل عدوا استسلم و لا أسير حرب و لا عدوا نائما أو أعزل ولا شخصا مسالما غير محارب و لا عدوا مشتبكا مع خصم آخر".

و في مجال الدبلوماسية يقول :" و إنّ من يرفع يده في وجه السفير يتعرض للهلاك والإبادة و ذلك لأن السفير مصان من قبل الآلهة" ، والمقصود في هذا القانون هو تجنب الحرب و تدعيم السلم بالمهارات الدبلوماسية و عدم المساس بالسفراء و الدبلوماسيين.

         أمّا في الصين، خلال القرن السادس قبل الميلاد، بحث الفيلسوف كونفوشيوس مؤسس النظرية العامة للعلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي، في إقامة اتحاد بين الشعوب، فلقد آمن بوجود قانون أساسي مشترك للعالم، لا يقتصر على المجتمع الداخلي، و لكنه متطلب أيضا من كافة الشعوب(2)، فنادى بإنشاء منظمة دولية تشبه هيئة الأمم المتحدة حالياًّ، حيث تختار الشعوب الأعضاء فيها مندوبين عنها من المواطنين الأكثر فضيلة و كفاءة، كما بحث الفيلسوف لاوتزو في الحد من الحروب، وفكرة إجراء عقوبات دولية ضد الشعوب المخالفة.                             

        وعند ظهور الديانة اليهودية ، كان من كتبها المقدسة التثنية الذي يعتبر أقدم القواعد المكتوبة بالنسبة للحرب ، وهي قواعد تتسم بالقسوة ،موجّهة لليهود فقط ، و بما أنها انطوت على قواعد تتعلق بشؤون الحرب ، فقد اكتسبت وصف القواعد الدولية  ، كانت نظرة اليهودي للشعوب الأخرى نظرة استعلاء   و تكبر و احتقار ، و يميّزون بين الشعوب الصديقة و غيرها ، فاليهود لم ينشئوا أثارا مثالية في العلاقات الدولية ، سبب ذلك هو انعزالهم و تعاليهم على الشعوب الأخرى، كما كانوا يستمتعون و يستحلون وقت الحرب قتل النساء  و الأطفال و العجزة ، و تدمير مساكنهم و ممتلكاتهم ، إلا أنهم كانوا يحترمون المعاهدات التي يعقدونها مع الشعوب الصديقة لهم ، و يحمون سفرائهم.

        أمّا الإغريق ، فكان شعبا يعتبر نفسه جنسا متميز من البشر يتفوق على الأجناس الأخرى ، و قد مثله ايزوقراط :" إن الاختلاف بين الإغريقي و البربري – أي غير الإغريقي – لا يقل عن الاختلاف بين الإنسان و الحيوان" ، و بالتالي نظر الإغريقي إلى الشعوب الأخرى نظرة استعلاء و تكبر ، ووصفهم بالهمجية ، و لا يصلح أفرادها سوى أن يكونوا عبيدا لهم ، و بالتالي علاقة الإغريق مع غيرهم علاقة عداوة و غزو واقتتال دون ضوابط قانونية أو أخلاقية.

فمقولة :" إن القانون حكم الأقوى" ترجع إلى الفكر الإغريقي، خاصة الفكر الأفلاطوني.

غير أن الإغريق طبقوا قواعد قانونية تحكم علاقات القوة فيما بينهم ، و كان ذلك في ظل ما يسمى بدولة المدنية ، ففي الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد و عام 338 قبل الميلاد (السيطرة المقدونية)، انقسم الإغريق إلى عدة مدن مستقلة لا تعترف بسلطة أعلى منها ، وقد طبقت هاته المدن في علاقاتها فيما بينها  قواعد قانونية تؤكد فيها ضرورة احترام السيادة والسلامة الإقليمية لكل منها ، كما أبرمت العديد من المعاهدات ، و أقامت اتحادات دينية التي اتخذت بعدها طابعا سياسيا ، كما عرفت أيضا التمثيل القنصلي ، و نوعا من التحكيم لتسوية المنازعات فيما بينها ، و مع ذلك لم تكن هناك قواعد قانونية تحكم الحروب فيما بينها ، و لا وجود لمعايير موضوعية لمشروعية الحرب ، إلا معيار واحد ألا و هو الحرب الشرعية يجب أن يسبقها إعلان رسمي بالحرب ، و حتى هذا الأخير لم يطبق عمليا ، كما أن الإغريق لم يضعوا قواعد تحكم سير الأعمال الحربية (القانون الإنساني حاليا)، فقد اتسمت الحروب الإغريقية بالوحشية دون أي رحمة للمدنيين و ممتلكاتهم ، و لا لأسرى الحرب ، فقد ظلت الحرب عند الإغريق خارج نطاق التنظيم القانوني ، و من ثم ادعى الإغريق حقهم في السيطرة على العالم بالقوة ، و أخذ هذا التدخل و الاعتداء شكل الغزو المباشر .      

        أمّا المجتمع اليوناني ، فقد كان متكون من مدن متعددة و مستقلة عن بعضها البعض استقلالا تاما ، مما انشأ مع مرور الزمن نوعا من قواعد القانون الدولي التي تنظم العلاقات فيما بينها ، وقت السلم و وقت الحرب ، فعرف اليونانيون التحكيم لحسم الخلافات التي تقومبين المدن اليونانية ، كما أنهم ميزوا أنفسهم عن الشعوب الأخرى ، باعتبارهم الوحيدين الذين يستحقون المعاملة بأساليب التعامل الدولية التي أدرجوا على إتباعها ، و أن الشعوب الأخرى المجاورة لا تستحق هاته المعاملة لأنهم برابرة ، و بالتالي يحق لليونانيين استعبادهم وإخضاعهم لهم.      

و من بين الفلاسفة المشهورين في ذلك الوقت ، الفيلسوف أرسطو ، الذي بحث في قواعد بما يسمى حاليا قانون الحرب و القانون الدبلوماسي ، غير انه أنكر في نفس الوقت حق الشعوب غير اليونانية من هذه القواعد ، فيقول في كتابه (السياسة) :"إن المدن اليونانية لها الحـــــق بأن تتقدم معا لفتح أراضي الشعوب البربرية و هذا الحق يصبح واجبا بمجرد أن يصبح مستندا إلى قوة عسكرية تعطي الأمل بالنصر". 

        أمّا في عهد الرومان ، أين كانت علاقة روما الخارجية من اختصاص مجلس الشيوخ و مجلس ثاني يتكون من كبار رجال الدين ، يطبق قواعد خاصة مستمدة من المبادئ الدينية المقدسة ، فقد قام هذا الأخير بدور بارز في إرساء قواعد الحرب الرومانية ، فكان يبدي رأيه فيما إذا كانت دولة أجنبية قد أخلت بالتزاماتها تجاه روما ، فإذا ثبت ذلك الإخلال ، طالبها المجلس بدفع تعويضات مادية و سياسية و أدبية ، فإذا لم تستجب الدولة المخلة لمطالب المجلس ، يرفع هذا الأخير(مجلس رجال الدين) أمرا إلى مجلس الشيوخ مع إبداء رأيه بأن هناك سببا عادلا لإعلان الحرب على هاته الدولة ،فإذا أعلن مجلس الشيوخ الحرب، اعتبرت حربا عادلة و فاضلة ، و قد استعار علماء اللاهوت وفقهاء القانون في القرون الوسطى بالمفهوم الروماني للحرب العادلة كأساس لمشروعية الحرب مع تطويره ، بحيث يتفق وقيم الديانة المسيحية.

        و وفقا لعادات الرومان ، كانت علاقات روما مع الشعوب الأخرى تتوقف على حسب  المعاهدة المبرمة ، فقد تكون معاهدة صداقة ، أم معاهدة ضيافة ، أم معاهدة تحالف ، كما يستمتع أفراد الشعب الأخر من عدة مزايا ، كالحماية في حالة تنقلهم أو وجودهم بروما.

أمّاّ الشعوب التي لا تربطها بروما أية معاهدة ، فإن أفرادها و ممتلكاتهم لا تتمتع بأي حماية بل يحل استعبادهم و قتلهم و الاستيلاء على ممتلكاتهم .

        إنّ مفهوم الحرب العادلة عند الرومان لم يستند إلى قواعد دولية ملزمة لأطراف الحرب ، فكان يستند إلى قاعدة وطنية تنظم علاقات روما مع جيرانها(*) ،و بالتالي تعتبر الحرب العادلة من قبيل التبرير الذاتي للحروب الرومانية ، و أكثر من ذلك ،فإن معظم الحروب لم تستند إلى هذا التبرير ، فكانت حروبا تسلطية و توسعية تهدف إلى السيطرة على حوض البحر المتوسط ، و امتداده القاري من الجزر البريطانية (الشمال الغربي) إلى بلاد فارس (الجنوب الشرقي) ، و هذا ما يعرف بالسلام الروماني .  

        غير أن هذه الأحكام البسيطة التي ساهمت مختلف الحضارات في تكوينها ، لم يقبلها بعض الفقهاء  ، بل رفضها باعتبار أن تلك الحضارات لم تكن لها قوانين مشتركة فيما بينها و لا تعترف بالمساواة بين  شعوبها ، فإن الأسس الاجتماعية لقانون دولي كانت ناقصة.

        و يضيف آخرون، بأّن الشعوب القديمة الأكثر حضارة، لم تستوعب المفهوم الأساسي لقانون الأمم، و لم تحترم الإنسان بوصفه إنسانا، و كان يعتبر الأجنبي عدوا أو جاسوسا      و لا يوجد احترام  للمعاهدات ، فكأن قانون القوة هو الذي يحكم العلاقات الدولية.

ويتفق آخرون مع هؤلاء، ويرون أن هناك فرقا واسعا بين المنظمات الدولية بمعناها الحديث و بين التجمعات القبلية أو المحلية التي كانت تنشا بين الفنية و الأخرى، لتضم شعوبا متفرقة و متناثرة بقصد القيام بعمل مشترك ، ففكرة الاستعمار و السيطرة والرغبة في سلب الشعوب  الأخرى،تفسر لنا أسباب تلك التجمعات المؤقتة أو العابرة، و لهذا فهي بعيدة كل البعد عن أسس التنظيم الدولي الراهن، كالمساواة و الاحترام والتعاون المتبادل لنشر السلم و الأمن الدوليين. 

        غير أن الدراسات الحديثة أثبتت وجود العلاقات الدولية و النظم القانونية الدولية منذ العصور القديمة ،  فلا يمكن إنكار مساهمات الحضارات القديمة عبر التاريخ الإنساني في تكوين بعض قواعد القانون الدولي ، و ذلك في ظل ما كانت تتبعه في علاقاتها مع غيرها من الجماعات في مبادئ و أحكام تتناسب مع ملابسات العصر.

        ولا يمكن تجاوز أو تمحيص الطابع التاريخي لتلك القواعد،أو المرور عليه مرور الكرام ذلك أن حاضر اليوم، موصول، بالحتم و الضرورة بماضي الأمس بوشائج قوية، تفرضها طبائع الأمور، و إذا حاول ذوو الأهواء طمسها تحت ستار دعاوى، ظاهرها العصرية و باطنها الهوى و الانحياز(3)، فلا شك أن القواعد التي أفرزتها تلك الحضارات القديمة لحكم العلاقات الدولية، قد كان لها أثرها في وقتنا الراهن.  

        امتد نفس هذا المفهوم في القرون الوسطى إلى النظام الإقطاعي و السلطان البابوي في شكل نظرية "الحرب العادلة" وذلك في الفترة ما بين القرن الخامس ميلادي إلى القرن العاشر حيث استمر الصراع بين السلطان البابوي في روما،و أمراء الإقطاع،إلا انه حسم في النهاية لصالح السلطة الكنسية، و قامت الدولة البابوية، حتى أنها هيمنت على أوربا طيلة خمسة قرون من القرن الحادي عشر حتى القرن الخامس عشر ، و هنا ظهر علم اللاهوت المدرسي القائم على الفلسفة السكولائية "المدرسية".

        وضع المسيحيون الأوائل خطا فاصلا بين الدين و السياسة ، عملا بالآية الإنجيلية "أعطوا لقيصر ما لقيصر، و ما لله لله"، فقد نبذت المسيحية كل أنواع العنف في العلاقات البشرية، كما ورد في إنجيل متى"أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأخر أيضا،و من سخرك ميلا واحدا، فاذهب معه ميلين"  واستنادا إلى القديس بطرس "أعد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف، بالسيف يهلكون" وإسنادا إلى الكتاب المقدس نجد أن المسيحيون الأوائل قد حرموا الحرب تحريما مطلقا، ومع ذلك ظهر تيار آخر مضاد للتيار الديني،ومتأثر بالنزعة السياسية،ويبرر بأن الإنجيل لم يمنع صراحة قيام المهنة العسكرية،وأن قانون الحب الذي جاءت به المسيحية لم ينسخ قانون القوة في الحياة البشرية، ومن ثم فمن حق الدولة اللجوءلاستخدام القوة إذا شعرت بوجود تهديدا لها.

        وعلى أثر ذلك قام صراع عنيف بين دعاة المسيحية المسالمة و رجال الحكم في روما وقد دام هذا الصراع قرابة أربعة قرون،وابتداء من القرن الرابع بدأ رجال الدين المسيحي يتراجعون عن موقفهم ويحاولون التوفيق بين روح المسالمة المسيحية من جهة وروح السيطرة العسكرية من جهة أخرى. فمع صدور قرار ميلانو الشهير في عام 313 ميلادية أصبحت الكنيسة بين يوم وليلة قوة عظمى،وهذا التحالف بين الكنيسة والدولة أدى بسلطة الكنسية إلى تحليل الحرب ، و لما كان هذا الموقف يدخل اضطرابا في أذهان الكثيرين، الذين كانوا يعتقدون أن إراقة الدماء جريمة يحرمها الكتاب المقدس ، فقد عمد القديس أوجستين إلى صياغة نظرية مشؤومة، والتي كان المقصود بها توفير راحة رخيصة للضمائر، بالتوفيق بين المثل الأخلاقي للكنيسة، و بين الضرورات السياسية المحيطة بها و قد ترتب عليها الإبطاء في تقدم الإنسانية عدة قرون.       

فأول من كتب في مشروعية الحرب ، القديس أوجستين ، كان ذلك خلال القرن الخامس ميلادي ، و قد وضع نظريته المسماة نظرية " الحرب العادلة" ، و بها أنهى الخلاف الذي كان قائما بين أنصار المسيحية الأصيلة المنادية بمبدأ السلام ، و عدم انخراط المسيحيين في الجيش الروماني ، و هذه النظرية أكدت أن الحرب عمل من أعمال القضاء العادل المنتقم ، حيث تهدف إلى توقيع العقاب العادل ، و من ثم فمن يشعل الحرب العادلة لا يرتكب ظلما فهي حرب تسعى في حقيقة الأمر إلى إقرار السلام و حماية المظلومين. و تقوم نظرية القديس أوجستين على الشروط التالية :

    1- وجوب التمييز بين الحروب العادلة و الحروب غير العادلة ، و تعتبر الحرب عادلة إذا كان الهدف منها الانتقام من الظلم .

    2- يجب أن يكون للحرب ضرورة تدعو لإعلانها ، فهي التي تضفي عليها صفة العدالة. 

    3- و من الحروب العادلة ، الحرب التي توجه من دولة أو مدينة تهمل في عقاب مواطنيها الذين ارتكبوا ظلما ضد دولة أخرى ، أو ترفض إعادة الممتلكات المغتصبة والحرب الدفاعية، و كذلك الحرب التي يأمر بها الله، والحرب التي يكون الهدف منها حماية الحلفاء . 

    4- و تعتبر الحرب غير العادلة إن كانت بغرض تحقيق المغانم ، أو تلك التي تشبع شهوة   السيطرة، وكذلك التي تشبع الرغبة في الإبقاء على الروح القتالية،أوهذه الحروب التي  تشبع رغبات المجد العسكري.

        لم تسلم نظرية القديس أوجستين من النقد، فيرى البعض: أنه بذلك قد أباح الحروب بوصفها من أعمال القضاء العادل المنتقم ، و التي وصفت بأنها تقوم من أجل ضمان السلام، و أنه قد أباح الحرب القائمة على الضرورة والحرب التي أمر بها الله، والحرب التي يكون الهدف منها حماية الحليف ، إلا أنه بذلك قد أدى إلى نتيجة حتمية وهي الحرب الدفاعية وحرب الاعتداء أيضا، أي أنه برر الحرب ، وبالتالي هي نظرية لتسويغ الحروب، بما فيها العدوانية التي قبلتها الكنيسة في القرن الرابع ميلادي قبولا تاما.

وبذلك " نظرية الحرب العادلة" لا تعد مرحلة تطور في آراء رجال الكنيسة في الحرب، بل هي في حقيقة الأمر تعد رجوع إلى الوراء ، لأن الدين المسيحي كما تقدم دعى إلى تحريم الحرب تحريما مطلقا في كافة صورها ، إلا أنه ومع تطور الفكر المسيحي في القرون الوسطى ، بدأ التبرير لاستخدام القوة العسكرية والحرب على أساس مبدأ العدالة حيث نادى القديس توماس الإكويني في القرن الثالث عشر ميلادي ،بفكرة جديدة هي "الحرب العادلة"  وهي الحرب التي يعلنها الأمير صاحب السلطة العليا، و يوجهها ضد شعب ارتكب ظلما نحو شعب آخر، أما الحرب غير العادلة فهي التي توجه بقصد اغتصاب إقليم أو اعتداء على حق دولة.. و لقد عدتها الكنيسة خطيئة دينية.

و مع انتصار الفكر الكنسي في الصراع – كما ذكرنا سالفا – أصبح القانون الكنسي هو مصدر القواعد القانونية الدولية ، و من ثم اختصت السلطة الكنسية بشرعية تصرفات الأمراء و الملوك، بما في ذلك تصرفات الإمبراطور الروماني الجرماني المقدس الذي ادعى أنه وريث الإمبراطورية الرومانية القديمة، ويعد القديس توماس الإكويني أعظم الفلاسفة السكولائيين ، و أبرز فقهاء القانون و المفكرين السياسيين .  

         ساد هذا المفهوم "الحرب العادلة" أوربا في القرون الوسطى ،و بررت به الحروب الصليبية و ظلت تلك القواعد القانونية التي أشارت إليها "نظرية الحرب العادلة" سائدة ، بل إن بعض القانونيين في منتصف القرن الثالث عشر أشار إلى أن المشكلة صارت في تحديد من القائد السياسي الذي لديه السلطة في بدء هذه الحرب ، و اعتبارها عادلة ؟ا

        ففي ذلك الوقت تعتبر أداة الحرب أمرا حيويا و ضروريا ،لعدم وجود قواعد قانونية دولية لفض النزاعات سلميا ، وقد ظهر في القرنيين الرابع عشر، والخامس عشر فريقين: الأول يرى تحليل المظاهر العملية للحرب متأثرا في ذلك بأحوال الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، و قد عرف هذا الفريق بمدرسة "الشارحين اللاحقين" ، و من أنصار هذه المدرسة "جيوفاني داليجنانو" الذي يعد أول من درس قانون الحرب و شرعية استخدام القوة في عام 1360م ، و الحرب عنده ظاهرة حتمية ، لأنها تهدف إلى تحقيق السلام ، و حتى يتحقق للحرب مشروعيتها ، لابد أن تعلنها أعلى سلطة فعلية مع وجود سبب عادلا لقيامها .  

        أما الفريق الثاني: فعرف بمدرسة "علم اللاهوت" وهو الفريق الذي اعتنق نظرية الحرب العادلة ،خلال القرون الثلاثة من الرابع عشر حتى السادس عشر، من أنصار هذه المدرسة الفقيه مارتيني دالودي، حيث نادى عام 1455م بضرورة التقسيم بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة ، و الحرب عنده مشروعة ، متى أعلنها شخص غير قادر على استرداد حقه المسلوب بوسيلة غير الحرب ، و قد سبق و انذر خصمه انه سيشعل نار الحرب ، ويرى أيضا أن من يشعل الحرب غير العادلة ، يعتبر مسؤولا عن كافة الأضرار المترتبة عليها، و يتحتم عليه رد ما حصل عليه دون وجه حق.

        أما "بيلي"، فقد أعلن عام 1536م ،أن حق إشعال نار الحرب يكون فقط للحاكم المستقل الذي يملك القدرة على ذلك ، و من رأيه أن الحرب العادلة هي التي لها سبب يتمثل في الدفاع عن الحقوق المشروعة أو استرداد ما اغتصب ، مع وجوب تخلص الحاكم الذي أشعلها من روح الانتقام أو الرغبة في تحقيق المكاسب و المغانم ، و إلا فهي حرب غير مشروعة ، كما استلزم بيلي في الحرب العادلة ، أن تهدف إلى تحقيق السلم و إقراره ، و الحرب غير العادلة هي سرقة ، و يجب استرجاع ما اغتصب، و أن الحاكم الذي يرفض عرض النزاع على التحكيم ، فان الحرب التي يعلنها حربا غير عادلة. 

        أما "فرانسيسكو دي فيتوريا "،فموقفه من قانون الحرب لا يختلف عن موقف العقيدة المسيحية من الحرب العادلة ، فهي (الحرب) لا تبرر إلا بعنصر الضرورة ، لأنها الوسيلة الوحيدة لقمع الظلم بين الشعوب ،كما يرى أن قيام الحرب العادلة يجب توفر ثلاث شروط : السبب العادل الكافي ،السلطة الشرعية ،النية السليمة ،والخطأ الذي يرتكب بحسن النية ويلد عنه اشتعال الحرب ،يسفر عن حرب عادلة ،دون التعرض للعقوبات ،بل ويرى بأنه لابد من اجتناب حربا مشروعة ،قدر الإمكان إذا ما كانت أشد ضررا للمسيحية وللمجتمع الدولي.  

        كما نرى أن فيتوريا قد تقدم في الرأي حينما نادى بضرورة الحد من استخدام القوة. وفي نفس الوقت جعل الحرب وسيلة لفض النزاع ، و حسم الخلاف بدلا من أن تكون أداة لإقرار العدالة ، و بالطبع كان متأثرا بأحداث القرن السادس عشر ، لذا حاول التوفيق بين هذه النظرية و الظروف السياسية السائدة في ذلك الوقت.

        أما "فرانسيسكو سواريس"،فقد كانت كتاباته واضحة في شأن الحرب، إذ يجد أن الحق في الحرب ينتج عن غياب هيئة سياسية عليا تستطيع الدولة التي تعرضت للضرر التوجه إليها لطلب التعويض، ولمنع الحرب في مثل هذه الحالة إمكانية اللجوء إلى وسيلة التحكيم من طرف ثالث. كما اعتبر أن الحرب لا تدخل في نطاق القانون الطبيعي،بل في نطاق قانون البشر(القانون الوضعي)، ولهذا يمكن إلغاؤها بإقامة نظام لحل المنازعات الدولية سلميا.


          وفي العقدين الأوليين من القرن السابع عشر،لمع نجم الفقيه المحامي "غروسيوس"       كتاباته و تأييده لنظرياته يعارضها أمير البلاد ، حملاه عقوبة السجن المؤبد مع مصادرة أملاكه عام 1619م ، لكنه تمكن من الفرار و نال حق اللجوء السياسي في فرنسا بمساعدة صديقه الرئيس جانا كما حضي بحماية لويس الثالث عشر، و في سنة 1625م ، نشر كتابه الشهير "قانون الحرب و السلم"، الذي يعد من أعمق الدراسات الشاملة في مسائل القانون الدولي العام. ففي جزئه الأول، يعطي تعريفا للحرب العامة و يميزها عن الحرب الخاصة(*) و في الجزء الثاني يشرح أسباب الحروب و الحقوق التي تستطيع الدولة أن تدافع عنها بقوة السلاح ، كما يعرض مسألة تعويض الأضرار، و مسألة المعاهدات، و قضايا دولية أخرى.  

وفي الجزء الثالث (الأخير)، ينصرف إلى دراسة قانون الحرب، و الأعمال المشروعة وغير المشروعة بالنسبة للمحاربين ( القانون الإنساني حاليا )، و دراسة الشروط التي بواسطتها يتم إقرار السلام .و مع ذلك تعذر على "غروسيوس" أن يضع قاعدة قانونية  واضحة تمنع التدخل العسكري، و قد رأى أن مجرد استخدام الدولة للعنف ضد دولة أخرى هو بمثابة حالة حرب .

        أما النظرة الإسلامية لمشروعية الحرب، فهي تدعو إلى السلم في كافة الأحوال، إلا  أن الحرب العادلة في الإسلام تم إقرارها لدفع الظلم ، فتقول الآية " و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، و لكن الله ذو فضل على العالمين"، "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"(سورة الأنفال، الآية 61)،ومعنى ذلك أنه إذا طلب جيش العدو المحارب الهدنة من جيش المسلمين وجب إجابته إلى ذلك، وذلك مراعاة للمصلحة الإنسانية والأمة الإسلامية في استقرار السلام(1)، كما تؤكد ذلك الآية: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"،" فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"(سورة النساء، الآية 90)،كما أن الحرب في الإسلام هي الحرب الدفاعية لقوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا،وإن الله على نصرهم لقدير" فالحرب المشروعة في الإسلام هي الحرب الدفاعية فقط،أما الحرب العدوانية فهي غير مشروعة"قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"(البقرة الآية190).

        فالدعوة الإسلامية هي دعوة عالمية لا تعترف بانقسام العالم إلى دول، فهي تهدف إلى      السلم وإلى اتحاد الشعوب تحت راية نظام عقائدي وقانوني موحد هو الشريعة الإسلامية وحيث إن الإسلام لم يمتد إلى أرجاء المعمورة كلها ، فقد اختلف علماء الفقه الإسلامي في تفسير طبيعة العلاقة بين "دار الإسلام"، التي يكون للمسلمين ولاية عليها وتطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية ، و"دار الحرب" ، التي تخرج عن ولاية المسلمين .

على الرغم من أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السلم وأن ذلك هو رأي أغلبية الفقهاء.   

        إلا أن هناك من يرى إلى أن الأصل في تلك العلاقة هو "الحرب" حتى تكون موادعة مؤقتة أو عقد ذمة، وقد أسس أصحاب هذا الرأي علاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول على مبدأ"الجهاد"فهو فرض لا يحل تركه،ما لم يطرأ ما يستوجب موادعة مؤقتة يكون الغرض منها هو الإعداد للحرب حين يكون بالمسلمين ضعف وبمخالفيهم في الدين قوة .

        فالقلة التي خالفت الأصل وهو السلم، انطلقت من الواقع الذي كانت تعيش فيه الدولة الإسلامية، ومن ثم يعد حكمها ظرفيا لا أصليا ،والاستناد إلى الآيات القرآنية :"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربنا  أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا  الذين امنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان ضعيفا"( النساء،الآية 75-76)، "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين"(البقرة، الآية 193)، وإلى انتزاع مثل هذه الآيات القرآنية من سياقها،وترتيب نزولها الزمني،والقول بنظرية مؤداها أن الحرب وسيلة شرعية وأساسية لغاية سيادة الإسلام في المعمورة كلها،و يشمل العالم بأسره، فلا يبقى هناك دار للحرب، ودعوة هذا الفريق من الفقهاء دعوتان، الأولى باللسان، والثانية بالسنان، فمن دعوا باللسان، و لم يجيبوا الدعوة، وجب على المسلمين دعوتهم بالسيف و قتالهم، وقد أسس أصحاب هذا الرأي في علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول وفق القواعد التالية :     

1- الجهاد فرض، لا يحل تركه بأمان أو موادعة، إلا بغرض الاستعداد حين يكون بالمسلمين  ضعف و بمخالفيهم في الدين قوة .

2- أساس العلاقة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين الحرب، ما لم يطرأ ما يوجب السلم من إيمان و أمان، و الأمان نوعان : أمان مؤقت و أمان دائم .

3- دار الإسلام هي الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام، و يأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أو ذميين، ودار العهد هي دار غير المسلمين الذين ارتبطوا مع المسلمين بعهد الأمان المؤقت العام،أما دار الحرب فهي الدار التي تجرى عليها أحكام الإسلام و لا يؤمن من فيها بأمان المسلمين.

        وقد قام فريق من المستشرقين بإحياء هذه النظرية، بغرض النيل من الشريعة الغراء، و تشويه مفهومها حتى ذهب بعضهم إلى أن الحرب مشروعة في الإسلام إذا كانت لإرغام الناس على اعتناقه و إبادة من لا يقبل به، مستندين في ذلك إلى مقالات لفريق من قدامى المفسرين لبعض نصوص القتال في الشريعة ضد المشركين، و ضد أهل الكتاب ومن في حكمهم، و إلى مثل الآيات السابقة الذكر، و حديث رسول الله (ص)" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله، فإن قالوها عصموا منى دماءهم و أموالهم إلا بحقها" و احتجوا بشرعية الحرب في الإسلام ضد اليهود و المسيحيين بالآية الوارد في سورة التوبة و هي آخر سور الأحكام نزولا " و قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، و فسروا ذلك عندما ضيّع أهل الكتاب بعض كتبهم المقدسة و تحريف وتزييف البعض الأخر، أصبحوا غير مؤمنين بالله ،و الشرك به، فلم يبقوا على دين الحق فجاءهم الإسلام كاشفا لجوهر الدين داعيا إياهم إليه فان رفضوه استحقوا تلك الأوصاف و أن يقاتلهم المسلمون حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية .    

        و ذهب فريق آخر إلى أن الجهاد، و إن كان يعبر عن علاقة عداء دائم على المستوى السياسي بين "دار الإسلام" و "دار الحرب" فإنه لا يفترض استمرار الاقتتال، لأن من الممكن نشر الإسلام بدون قتال مسلح و لا حروب و ذلك بالاقتناع (الدعوة اللسانية)

        و يرى فريقا ثالث، و هو الأرجح ، إلى أن الأصل في العلاقة بين "دار الإسلام"      و"دار الحرب" هو السلم، و أن الحرب المشروعة في الإسلام هي الحرب الدفاعية فقط، فكأن أساس مشروعية الحرب في الإسلام هو دفع الاعتداء و الدفاع عن الذات .

فالجهاد واجب و مشروع لحماية الدعوة الإسلامية، و دفع العدوان عن المسلمين، فمن لم يجب الدعوة و لم يبدأ المسلمين باعتداء لا يحل قتاله، و لا تبديل أمنه خوفا، و لا يباح قتال مخالفين المسلمين لمخالفتهم في الدين، لقوله تعالى" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" و إنما يؤذن في قتالهم، و يوجبه إذا اعتدوا على المسلمين، ووقفوا عقبة أمام الشريعة الإسلامية ليحولوا دون نشرها فحينئذ يجب القتال دفعا للعدوان وحماية الدعوة الإسلامية. يقول عز وجل" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، و اتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين". فإذا تمعنا في القران الكريم، والسنة النبوية، نجد أن الباعث على القتال، ليس هو فرض الإسلام دينا للمخالفين،ولا فرض نظام اجتماعي معين، بل هو    القتال من أجل دفع العدوان سواء كان عدوانا ماديا على دار الإسلام، أو معنويا على الدعوة الإسلامية التي هي دعوة عالمية، كاشفة للعالم بأنها مجتمعا دوليا يشمل دار الإسلام و دار الحرب ودار العهد، ويخضع لمجموعة من القواعد القانونية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.  

        و من أهم ما نادت به أحكام الحرب، كما أقرتها الشريعة الإسلامية، هو ضرورة إعلان الحرب ، فلا يجوز مهاجمة العدو على حين غرة، كما لا يجوز التمثيل بجثث القتلى   حتى و لو فعل ذلك الأعداء، و لا يجوز قتل من لا يقاتل، لقول رسول الله(ص) لجيش أرسله  " انطلقوا باسم الله و بالله، و على بركة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، و لا طفلا، و لا صغيرا، و لا امرأة، و لا تغلوا(*)، و ضعوا غنائمكم و أصلحوا و أحسنوا، إن الله يحب المحسنين"، و في معنى هذه الوصية قال رسول الله(ص) :"سيروا باسم الله في سبيل الله     و قاتلوا أعداء الله، و لا تغلوا، و لا تغدروا، و لا تنفروا، و لا تمثلوا، و لا تقتلوا وليدا" ويقول لخالد بن الوليد "لا تقتل ذرية ولا عسيفا "(2)، و قد أوصى أبي بكر(رضي الله عنه) يزيد بن أبي سفيان عندما أرسله على رأس جيش إلى الشام، ".. و إني موصيك بعشر، لا تقتلن امرأة، و لا صبيا، و لا كبيرا هرما، و لا تقطعن شجرا مثمرا، و لا نخلا و لا تحرقها، و لا تخربن عامرا، و لا تعقرن شاه و لا بقرة إلا لمأكلة، و لا تجبن، و لا تغلل" .

        فقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة إلى مبادئ الكرامة الإنسانية و العدالة و الرحمة وهي مبادئ لم يقررها القانون الدولي العام، إلا حديثا، منذ عهد قريب نسبيا من منتصف القرن العشرين، تحت مسمى القانون الدولي الإنساني، و كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية في اتفاقيات جنيف الأربعة عام1949م .

        فالقواعد التي أرستها الشريعة الإسلامية في حكم العلاقات بين" دار الإسلام"   و" دار الحرب" ليست قواعد دولية بالمعنى المتعارف عليه حاليا، فهي قواعد داخلية تنظم العلاقات الخارجية" لدار الإسلام"، وغير ملزمة بالنسبة للدول الأخرى غير الإسلامية .

        و معلوم تاريخيا أن الدول المسيحية رفضت دخول الدولة الإسلامية (الدولة العثمانية) إلى ما أسمته العائلة الدولية ( الجماعة الدولية )، و ظل الحال كذلك، حتى منتصف القرن التاسع عشر (1856م)، حيث قبلت الدولة الإسلامية (الدولة العثمانية) في المجتمع الأوروبي بمقتضى معاهدة  باريس في ذلك الحين، ومن ثم ظل القانون الدولي التقليدي يقتصر في فترته الأولى على القانون الدولي الذي يحكم العلاقات فيما بين الدول الأوروبية دون سواها.

        بعد هذا العرض التاريخي الموجز،الذي يشير إلى شكل الحروب والتدخلات العسكرية يمكننا القول بأن الحرب تعني التدخل من جانب دولة قوية في شؤون دولة أضعف منها نسبيا وبالتالي تكون هذه الأخيرة غير قادرة على حماية مصالحها وحدود إقليمها...وكان هذا متاحفي القانون الدولي التقليدي . ففي عهد مصر القديمة تدخلت في شؤون الدول المجاورة لها، مثل النوبة جنوبا و سوريا و فينيقيا و فلسطين شرقا و ليبيا غربا و جزر بحر ايجا شمالا، و كذلك عرف التدخل كما سبق و أن أشرنا له في عهد اليونان وعهد الرومان و الذي أخذ شكل امتداد نفوذ كل منهما، آخذا شكل الغزو المباشر و الاجتياح، ومع انتصار الفكر الكنسي في القرون الوسطى، رأت السلطة البابوية أن من حقها إخضاع العالم غير المسيحي بأسره إلى سلطانها . فقد كان النظام الدولي في ذلك الوقت لا يسمح بقيام دول جوار دول أوروبا، و تكون غير خاضعة للسلطة البابوية، إلا أنه و بعد انهيار النظام الإقطاعي في أوروبا ، و الدولة البابوية، وإمبراطورياتها المقدسة، وتوقيع اتفاقية وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر (1648م)، والتي أسفرت عن ظهور الجماعات البروتستانتية المستقلة عقائديا وسياسيا بدأ في ذلك الحين تحول المجتمع الأوروبي إلى مجتمع دولي ، و توالت فيه ظهور الدول القومية، وبرزت ملامحه الدولية بانتظامه في وحدات سياسية تتمتع بالحرية السياسية  والمساواة، وبدأت محاولات قيام قادة الفكر والفقه الدولي في أوروبا لمعالجة الفوضى، التي سادت منطق القوة والتدخل بالقوة وبدأ التفكير في قانون دولي حقيقي ينظم العلاقات الدولية فيما بين الدول الأوروبية و يحد من ويلات الحروب و استعمال القوة. غير أنه كان أمام الدول الأوروبية اتجاهين متباينين : 

        الاتجاه الأول : استقاء مجموعة من القواعد القانونية في القانون الروماني و النظام الإقطاعي فاستمدوا منها السيادة المطلقة للدولة، و هي النظرية التقليدية التي ارتكز عليها القانون الأوروبي (القانون الدولي العام التقليدي)، و قد ترتب على تلك السيادة المطلقة، عدة مبادئ منها مبدأ الحرية المطلقة في إعلان الحرب و التدخل العسكري .   

الاتجاه الثاني : و هو البحث لإيجاد قانون دولي بأحكام قائمة على أسس إنسانية تعلو على سيادة الدولة المطلقة، و منطق القوة في العلاقات الدولية، و من الذين أخذوا بهذا الاتجاه قادة الفكر و الفقه الدولي و خاصة أبو القانون الدولي "غروسيوس" و لكن هذا الاتجاه لم يأخذ طريقه إلى الوجود إلا في العصر الحديث، لذا سادت أحكام القانون الدولي العام التقليدي الاتجاه الأول، حيث حرية التدخل العسكري، و النابعة من منطق الحرية المطلقة للدولة في اتخاذ قراراتها، و من بينها قرار شن الحروب، و إعلان الحرب، لذا ظهر العديد من النظريات و المدارس لفقهاء القانون الدولي و مفكرين في ذلك العصر .   

        إن النزعة الفردية لم تنعكس فقط في نظرية "السيادة المطلقة"، بل تم إقرارها في معاهدة صلح "معاهدة وستفاليا"- كما ذكرنا- و أصبحت هي الأساس في التعامل بين الدول الأوروبية، بحيث كل الدول متساوية في السيادة قانونا، و أنها لا تخضع لقواعد قانونية إلا بإرادتها، فإن تنظيم العلاقات فيما بينها إنما يخضع لواقع الحياة الدولية التي لا يمكن أن تقوم إلا في ظل واقع" توازن القوى ". كما توالت معاهدات الصلح تلوى الأخرى ( معاهدة "أوترخت" في عام 1713م، بين اسبانيا، انجلترا، فرنسا، و هولندا، و التي وضعت حدا لحرب توارث عرش اسبانيا، كما أكدت هذا الأساس معاهدة " فيينا " في عام 1814م، التي أنهت الحروب النابليونية، فقد نصت هذه المعاهدة بأن الهدف من الصلح هو إقامة سلام قوي يقوم على توازن عادل للقوات بين الدول )، و لم تخل معاهدة سياسية لاحقة من نصوص صريحة تؤكد على إقامة السلام فيما بين الدول الأوروبية.

كما أن النزعة الفردية ارتبطت بتطور نمط النظام الاقتصادي، من النمط الإقطاعي إلى النمط التجاري، فقد اتسع نطاقها الجغرافي و ازدادت رسوخا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع انتشار الثورة الصناعية و نمو النظام الرأسمالي، إلى درجة أنه تم صياغتها في نظرية قانونية عامة  تحت اسم "حقوق الدول الأساسية"، كما وجدت (النزعة)  سندا قويا لها في بعض المذاهب الفلسفية و المدارس الأدبية.

        و من ثم نلاحظ أن أحكام القانون الدولي العام التقليدي، في تلك الفترة و قبل بداية عصر التنظيم الدولي، لم يفرض أي قيود موضوعية على حق الدول في اتخاذ قراراتها السياسية، بشن الحروب أو استخدام القوة، بل فرض قيد شكلي فقط، و هو ضرورة إعلان الحرب و طبقا لتوازن القوى و المصلحة العليا للدولة .

        إن مشروعية الحرب بوصفها عملا من أعمال السيادة لا تنفي تطلع الشعوب إلى تجنبها نظرا لما ترتبه من أضرار بالغة، فالسياسة العملية، و المصلحة الحقيقية للدول تقضي بضرورة حفظ السلم و عدم اللجوء إلى الحرب إلا كتدبير أخير، بعد ثبوت فشل التسوية السلمية للمنازعات بين الدول، هذه النزعة السلمية التي أحرزت تقدما ملحوظا على مستوى الفكر و التطبيق في القرن التاسع عشر، تقوم في جوهرها على افتراض أن الحرب هي أداة لتسوية المنازعات بين الدول، فهي ليست جريمة، أو عملا غير مشروع، و لكن نظرا لما يترتب على استخدام القوة من نتائج تدميرية، فضلا عن ارتفاع تكاليفها و استحالة التنبؤ بمصيرها على وجه اليقين، فقد حاول المجتمع الدولي إيجاد أسلوب بديل للحرب، كالحث على اتخاذ تدابير وقائية تهدف إلى التسوية السلمية، فأسلوب التسوية السلمية يقوم بوظيفة وقائية من استخدام القوة، و ليس نتيجة لعدم مشروعية استخدام القوة .   

        و هكذا نجد أن الدول و قد بدأت تحبوا نحو تحقيق أمل يعد من آمال السلم الدولي، فبدأت تتبع سياسة المؤتمرات الدولية، و قد نجحت إلى حد ما في تنظيم العلاقات الدولية في محاولاتها للحد من النزاع المسلح و الحروب، ونتج عنها إبرام العديد من المعاهدات الدولية، و التي هي أصل من أصول القانون الدولي الحالي كما نعلم، و من ثم آتت المؤتمرات الدولية ثمارها كما حدث في مؤتمر فيينا الشهير( سبتمبر1814م إلى جويلية 1815م )، بين الدول الأربعة المنتصرة ( روسيا، بروسيا، النمسا، و انجلترا )،ونتج عنه معاهدة فيينا لعام 1815م ( اتفاقات فيينا عام 1815م )، و قد تضمنت عدة مسائل ، و كانت هذه بداية مناقشة المشاكل الدولية ، بأسلوب يضفى عليه الطابع الجماعي .

          وصدرت في أعقاب تلك المعاهدة المعروفة "بالتحالف المقدس" عام  1815م  وهو اتفاق بين أباطرة روسيا و بروسيا و النمسا يهدف إلى قمع الثورات الداخلية، و الحفاظ على العروش، بالإضافة إلى المحافظة على الأوضاع الإقليمية في أوروبا، وانضم إلى هذا الحلف فيما بعد ملوك فرنسا و السويد و النرويج و اسبانيا وهولندا و الدنمارك والبرتغال. كما دخلت انجلترا مع ثلاثي التحالف المقدس في اتفاق عقد في 20 -11- 1815 عرف بالحلف الرباعي تضمن التشاور للحفاظ على السلام في القارة الأوروبية، و تعددت فيما بعدها المؤتمرات والمعاهدات الدولية ، دفعا لاحتمالات النزاعات المسلحة و الحروب ، ففي إطار تنظيم "المؤتمر الأوروبي" على سبيل المثال، نصت معاهدة باريس لعام 1856م على أن : "الدول التي يقوم بينها أي سوء تفاهم خطير يجب عليها،قبل الاحتكام إلى السلاح،أن تلجأ، بالقدر الذي تسمح به الظروف، إلى المساعي الحميدة لدولة صديقة "، و كذلك معاهدة بسمارك(رجل أوروبا القوي) مع دول أوروبا،ومثل المعاهدة النمساوية الألمانية عام 1879م  وعصبة الإمبراطوريات الثلاث بمعاهدة 1881م، بين بروسيا و النمسا و روسيا ، و معاهدة الحلف الثلاثي الأول بين بروسيا و النمسا و ايطاليا عام 1882م ، و بعد تصدع هذا الحلف بفعل مناوشات عسكرية عام 1885م، تعين تجديد التحالف،ففي عام 1887م عقدت معاهدتين الأولى بين بروسيا و ايطاليا ، و الثانية بين ايطاليا و النمسا ، ثم عقد بسمارك مع روسيا في نفس العام معاهدة "إعادة الضمان"، وتعتبر وسيلة للحفاظ على التوازن والسلام في أوروبا كذلك اتفاقية لاهاي لعام 1899م الخاصة بالتسوية السلمية للمنازعات الدولية ، و المعدلة  باتفاقية لاهاي لعام 1907م ، نصت على أن تبذل الدول قصارى جهدها لتسوية المنازعات فيما بينها بالطرق السلمية، و ذلك لتفادي استخدام القوة بقدر الإمكان في العلاقات بينها .

        يعد مؤتمر لاهاي ذا أهمية خاصة بالنسبة لتقرير اللجوء للوسائل السلمية لحل المنازعات لأسباب عدة أهمها :

1- إن هذا النوع من المؤتمرات انعقد وقت السلم، مما يعني ظهور نوع من الدبلوماسية الجماعية في وقت السلم، و ليس في أوقات الحرب و تصفية مشاكلها .

2- هذه المؤتمرات شاركت فيها دول غير أوروبية .

3- دورية هذه المؤتمرات : الأول عام 1899م، و الثاني عام 1907م، و الثالث كان مقررا له عام 1915م و هذا في حد ذاته تقدم ملحوظ .

4- وهذا ما يهمنا في دراستنا هذه : ألا وهو إيجاد وسيلة سلمية لحل المنازعات الدولية بدلا من الحروب مما يعد اهتماما بالقانون الدولي، حيث الانتقاء والصياغة لقواعد قانونية لحل المنازعات سلميا، و تعد هذه الأهمية في حد ذاتها ، هي البداية لعصر التنظيم الدولي والمنظمات الدولية.

وهكذا قام ترابط بين مبدأ التسوية السلمية و حظر استخدام القوة ، و لكن هذا الترابط لم يكن يعني التلازم المطلق بينهما، أو قيام علاقة سببية مباشرة بينهما، إن الفترة المبكرة، التي بدأت منذ فجر التاريخ، وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، قد شهدت تطورات فقهية دولية و إن كانت بطيئة، إلا أننا يتعين علينا أن لا ننسى أننا في بداية تطور قواعد قانونية دولية،كما لا تزال مشروعية استخدام القوة هي الأساس في فترة القانون الدولي العام التقليدي.


---------------------
المصدر: 
لحرش فضيل شريف،  مبدأ حظر استخدام القوة وفق أحكام القانون الدولي 


تعليقات