أوضاع المشرق العربي تحت الحكم العثماني
شهدت الدولة العثمانية منذ
النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحديات داخلية وخارجية خطيرة امتدت آثارها حتى
إلى فترة حكم عبد الحميد الثاني (1876-1909)، فقد اشتد الغزو الغربي وتمثل في خضوع
بعض الكيانات لديون غربية ضخمة حتى أعلنت السلطنة العثمانية عجزها المالي سنة 1875
ومصر في 1876، هذا الى جانب نتائج الحرب الروسية العثمانية (1877-1878) التي أفقدت
هذه الدولة معظم ولاياتها الأوربية وفي دخول بريطانيا مصر سنة 1882 واستيلاء فرنسا
على تونس 1881. أما على الصعيد الداخلي فعرفت الولايات العثمانية ومنها العربية
حالة من التخلف وسوء الحكم، هذه الأوضاع صارت مصدر إثارة وخوف بالنسبة للعناصر
الوطنية العربية.
1 – الأوضاع السياسية
رغم كل الاحتياطات الإدارية
والعسكرية التي اتخذتها الدولة العثمانية لتستقر أحوال البلاد العربية ومنع كل
حركات التمرد، فقد اشتدت موجات العصيان والتمرد وزاد خطرها منذ القرن الثامن عشر،
وبذلك اختل توازن الدولة العثمانية. وقد تجسد هذا الاختلال في العلاقة بين السلطة
المركزية التي يمثلها الباشا أو الوالي، وبين مختلف أجهزة المؤسسة العسكرية، هذا
فضلا عن عمليات النهب والغزو والتمرد على السلطة المركزية التي كانت تقوم بها
الزعامات المحلية والإقطاعيين، وكانت رغبتهم في ذلك الاستقلال والانفراد بالحكم في
مناطقهم. مما أدخل الدولة في دوامة من الصراعات انعكست آثارها سلبا على الأهالي،
وغالبا ما كانت الدولة العثمانية تواجه هذه المستجدات بعدم الاكتراث.
ففي العراق أدى فساد الإدارة إلى ضعف قبضة الولاة على البلاد وإلى انتشار موجة العداء بين السلطة العثمانية والمواطنين والى مقاومتهم لحكمها. وقد نجم من الحكم العثماني تمزق وحدة الوطن نتيجة اشتداد العصبيات، وقد واكب هذا التفكك اشتداد وزيادة الخلافات الطائفية والمحلية، وتنافست العصبيات من أجل امتلاك السلاح للحفاظ على ممتلكاتها، فختل الأمن وساءت الأحوال العامة وزادت الضرائب.
أما بلاد الشام وتحديدا لبنان
فكانت تعيش وضعية خاصة نتيجة الصراع الديني حيث خلف انتقادات اتجاه إظهار المشاعر
الدينية ضد الدولة العثمانية، فقد شهدت هذه المنطقة صراع عنيف ومستمر بين الكنائس
المسيحية، وقد كان للدول الأوربية خاصة فرنسا يد طويلة في إثارة مثل هذه الصراعات
الطائفية، وذلك حتى تتخذها ذريعة للتدخل في شؤون الولاية. وقد نجحت في تنفيذ
مخططاتها بعد المذابح التي حصلت بين الدروز والموارنة عام 1860. وعلى إثر هذه
الأوضاع تم تكوين لجنة دولية لوضع نظام سياسي جديد يحكم لبنان أصبح بمقتضاه تحت
حكم ذاتي مسيحي يخضع للباب العالي مباشرة عرف باسم المتصرف يساعده مجلس اداري مكون
من 12 عضوا، عضوان لكل طائفة من الطوائف الدينية الكبرى.
أما مصر فكانت أوضاعها تختلف
تماما عن باقي الولايات، فقد حافظت على استقلالها الذاتي، غير أن اسراف حكامها دفع
مصر للاستدانة من الدول الأوربية، هذه الأخيرة وجدت في ذلك فرصة لإحكام سيطرتها
على اقتصاد مصر وتحكمت اللجان المالية الإنجليزية والفرنسية خاصة في شؤون الحكم وكانت
نهاية المنافسة بين الدولتين إلى احتلال الإنجليز لمصر سنة 1882 وانتقلت السلطة
بعد ذلك وبطريقة غير مباشرة إلى ممثل بريطانيا في مصر، وأصبح الخديوي في حيرة من
أمره بين الخضوع للسلطان العثماني أو اضطراره لتنفيذ التعليمات البريطانية. وقد
مال المصريون حينذاك إلى تأييد رابطة للسلطان العثماني.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر اتجهت الدولة العثمانية إلى إحكام السيطرة على ما تبقى من ولايات عربية، فأصدرت قانون الولايات. إذ اعملت على بسط الحكم المركزي في ولايات الشام، ففرضت تبعية الولاة للحكومة المركزية في إستانبول. وفي 1864 نظمت الولايات في الشام بطريقة تساعدها على السيطرة على كل فروع العمل الحكومي بها، ثم قسمت بلاد الشام إلى ولايتين هما ولاية سوريا التي ضمت أجزاء من إيالتي طرابلس وصيدا، وولاية حلب التي توسعت وضمت أجزاء من الجزيرة العربية والأناضول. أما القدس فقد انفصلت عن ولاية سوريا سنة 1874 وأصبحت ترتبط بالباب العالي مباشرة.
أما الحجاز فلم يكن يخضع للسلطة
العثمانية بصفة مطلقة مثل باقي المناطق العربية الأخرى بل كان، فقد كان للمنطقة
استقلال شبه ذاتي وذلك نتيجة لحكم الأشراف حيث اكتفى السلاطين العثمانيون بإلزام
الأشراف بإظهار الولاء للدولة العثمانية وذكر أسمائهم على المنابر في خطب الجمعة.
وقد حاولت الدولة العثمانية
إحكام سيطرتها الفعلية على الحجاز من خلال استحداث نظام جديد، من أجل بسط نفوذها
وبالطبع لأهمية الحرمين الشريفين وللتقليص من نفوذ الأشراف في المنطقة، فلجأت إلى
تغيير الأوضاع الإدارية وذلك من خلال تعيين والي عثماني عام على الحجاز. وتمثلت
أعماله فيما يلي:
- الإشراف على القوات العسكرية
العثمانية المرابطة بين مكة وجدة والطائف
- إعداد تقرير عن شريف مكة وشؤون
الولاية وإرساله للسلطة العليا
- الاهتمام بالنظام الداخلي للمنطقة
- كانت الكثير ما تحدث نزاعات بين
الأشراف فيتدخل الوالي أحيانا لفظ النزاع ويتحمل الوالي مسؤولية كل ما يحدث داخل
الحجاز
بعد وصول السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للحكم سنة 1876، قام بإحداث إصلاحات إدارية، فقسم الدولة إلى ولايات على رأس كل ولاية والي مسؤول أمام الحكومة المركزية، قسمت بلاد الشام، إلى ثلاث ولايات وسنجقين، كما قسم العراق إلى ثلاث ولايات، في حين لم يتمكن من فرض نظام دقيق على شبه الجزيرة العربية فلم تكن مرتبطة إلا اسميا بالوالي العثماني بالإضافة إلى اهتمام السلطان بالشؤون الإدارية فقد اهتم أيضا بالمؤسسات العربية، الدينية والعلمية فتبرع بالأموال والهبات، وقدم مبالغ كبيرة لإصلاح الحرمين الشريفين، وترميم وتجميل المساجد في مكة والمدينة وبيت المقدس.
ونجد أن السلطان عبد الحميد ساندة فكرة الجامعة الإسلامية التي نادى إليها
الكثير من الذين أرادو التخلص من النفوذ الأجنبي والاستبداد والطغيان الذي أظهره
الحكام العثمانيون في البلاد وعلى رأسهم جمال الدين الأفغاني الذي يعد الأب الروحي للجامعة الإسلامية، حيث دعاه السلطان للأستانة وقربه
إليه، وكان يهدف من سياسته الدينية دعم وتعزيز ملكه وحكمه في الداخل من جهة
ومواجهة أعدائه في الخارج من جهة أخرى.
2- الأوضاع الاقتصادية:
كانت الأوضاع الاقتصادية للبلاد العربية في بداية القرن التاسع عشر سيئة
للغاية نتيجة سيطرت الأجانب على اقتصاد البلاد بعد قيام الثوة الصناعية في
بريطانيا. فقد أدى ذلك الى زيادة التنافس الاستعماري على الأسواق التجارية، وظهور
أهمية العالم العربي كمصدر للمواد الخام، وكسوق واسع للصناعات الأوربية، وكانت
الامتيازات الأجنبية بين الدولة العثمانية والدول الأوربية عاملا مساعدا على وقوع
العالم العربي في قبضة الاستعمار الأوربي، فقد كان دخول السلع الاوربية إلى البلاد
العربية سببا في سقوط المراكز الصناعية القديمة فيها وانقراض الكثير من الحرف
الصناعية. على إثر هذا وقعت البلاد العربية في دائرة الديون الأجنبية، وكانت فوائد
الديون باهظة للغاية، فقامت الدول الدائنة بفرض سيطرتها على ميزانية الدول
المدينة، كما سيطرت البنوك الأجنبية على مالية الدول العربية.
إن هذا الحال الذي وصل إليه الاقتصاد العربي أثر تأثيرا كبيرا على السكان
خاصة مع تزايد عبء الضرائب التي أثقلت كاهل السكان، فأرغمتهم على الهجرة وتخليهم
عن أراضيهم بحثا عن حياة أفضل في مناطق أخرى، كما اثر هذا الوضع على سلوكيات الناس
في البلاد العربية حيث انتشر الإسراف والتبذير فكانوا يخسرون أموالهم وممتلكاتهم
التي كان يأخذها الأجانب، إلى جانب التواكل الذي كبل عقولهم عن التفكير وأرجلهم
وأيديهم عن السعي والعمل، مما خلف حالة التذمر والإحباط في نفوس العرب، هؤلاء
الذين أرجعوا سبب نكستهم ومحنتهم إلى العنصر التركي الدخيل.
وحين تولي عبد الحميد الثاني الحكم كان عليه إيجاد حلول لعدة مشاكل، فركز
جهوده على إدخال إصلاحات وفتح باب القروض والاستدانة من الخارج، ولخدمة هذا الدين
رصدت الدولة العثمانية بعض مداخيلها كدخل احتكار الملح والضريبة على الكحوليات
ورسوم الدمغة وضريبة العشر على الحرير، والضريبة المفروضة على عوائد التبغ، كما
سمحت للدول الدائنة خاصة فرنسا وبريطانيا بإقامة استثمارات واسعة في تراب الدولة
العثمانية. فكان من نتاج ذلك استنزاف خيرات الدولة، اذ أن عائدات تلك الاستثمارات
لم تكن تذهب مباشرة لخزينة الدولة بل كانت تحول إلى بنوك لندن، باريس، فيينا
وبرلين.
إلى جانب هذه
التحديات المالية كان هناك تحد آخر كانت آثاره مدمرة للاقتصاد العثماني ألا وهو
الامتيازات الأجنبية، وقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني في العديد من المرات
التخلص أو على الأقل التخفيف من شروطها، غير أنه لم يتمكن ن ذلك، اذ أنه فشل في
رفع الرسوم الجمركية على الواردات الأوربية، فكلما حاولت الدولة العثمانية التخلص
من قيود معاهدة الامتيازات إلا واحتجت الدول الاوربية بهدف حماية مصالحها، وكثيرا
ما تلوح باستخدام القوة العسكرية.
وللنهوض باقتصاد البلاد أولى عبد الحميد الثاني اهتماما كبيرا لمشاريع سكك الحديد خاصة مشروع سكة حديد برلين بغداد الذي اقترحته الدولة الألمانية، ويمتد من قونية في الأناضول ويمر بحلب والموصل فبغداد والبصرة وينتهي عند الكويت، ويمتد فرع آخر منه من حلب إلى الإسكندرية، وعندما رأى السلطان عبد الحميد الثاني ما سيجلبه هذا المشروع له وللدولة من مصالح قبل به.
3-
الأوضاع الاجتماعية والثقافية:
كانت الدولة العثمانية من وجهة النظر الدينية، دولة
إسلامية يحكمها سلطان مسلم، ويسود فيها الشرع الإسلامي، ونتيجة لفتوحاتها الواسعة
في آسيا وأروبا وافريقيا دخلت في حوزتها شعوب وأمم تدين بأديان ومذاهب مختلفة،
فأصبحها سكانها حسب الفقهاء ينقسمون إلى فئتين: مسلمين وأهل ذمة، وشمل هذا التقسيم
الطائفي المجتمع العربي، فكان المسلمون يشكلون الأغلبية العظمى، بينما أهل الذمة
أقلية قليلة لا تتجاوز عشر السكان، وانقسم المسلمون إلى سنة وشيعة ونصيرية ودروز،
كما انقسم أهل الذمة الى نصارى ويهود وصابئة، وانقسم النصارى بدورهم إلى روم أرثوذكس
وروم كاثوليك، وسريان وأرمن وأقباط ولاتين وإنجيليين، كما انقسم اليهود إلى
سفارديم واشكنازيم، وترك العثمانيون لهذه الطوائف حرية ممارسة عباداتها وتطبيق
شرائعها، كما أبقوا على زعاماتها الدينية التقليدية.
إن المجتمع العربي في العهد العثماني كان ينقصه التجانس
والتماسك، فما كاد القرن التاسع عشر ينتهي حتى بدأت الأطر الاجتماعية القديمة
بالانهيار، وتراجعت القيم الاجتماعية القبلية لتحل مكانها قيم جديدة مستوردة من
الغرب، ونشأ صراع شديد بين الراغبين في التفرنج وتقليد الغرب في المسكن والملبس
والمأكل والمشرب ومختلف وسائل الترفيه، وبين المحافظين أنصار التقليد القديم الذين
بذلوا كل ما في وسعهم لمقاومة تيار التفرنج وصده.
انتشر الجهل والتخلف والبدع بين العرب كما زادت التفرقة والاختلاف، فلا رابطة اجتماعية تجمعهم على كلمة واحدة، فأخذهم الفقر على الرغم من غنى بلادهم واتساعها وخصوبتها، ولكنهم بجهلهم لم يعملوا على الانتفاع بها وبخيراتها، وتسلمهم الذل والهوان رغم قوتهم وكثرة عددهم، وتركوا بلادهم تنهب على يد الأوربيين ورضوا بأن يكونوا لهم خدما طائعين، كما انتشر عدد من رجال الدين الجهلاء يوهمون الناس بالباطل ويدعونهم إلى حج قبور الأولياء، وانتشرت الطرق الصوفية، إذ أصبحوا يزينون للناس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن الكريم، وابتعدوا عن جوهر الدين الإسلامي.
أمام هذه الأوضاع السيئة كان لابد من يقظة فكرية واجتماعية، فمع بداية القرن التاسع عشر ظهرت معالم نهضة فكرية وأدبية في كل من مصر وسوريا، حيث قامت المدارس الحديثة على أيدي الارساليات التبشيرية الأجنبية وعلى أيدي الهيئات الوطنية المحلية على السواء، وقد تميز القرن التاسع بازدهار الحركة الثقافية ازدهارا كبيرا وظهر الكثير من الكتاب العرب من أبرزهم بطرس البستاني وناصف وإبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده، وكذلك كان من أهم مظاهر النهضة هو إنشاء الجمعيات السياسية والأدبية والعلمية.
موضوع رائع
ردحذف